لا يمكن لأيّ لبنانيّ أن يتنصّل من معركة الدفاع عن الحرّيات أو يقف مكتوف اليدين، لأن لا وجود للبنان من دون حريّة. إرتبط إسم لبنان بالحريّة، فكان الواحة التي تشكّل فسحة أمل لكل مضطهد أو مظلوم في هذا الشرق، ونتيجة هامش الحريّة الموجود، أبدع اللبناني في مجال الكتابة والصحافة وأصبحت بيروت منارة الشرق والسبّاقة إلى التطوير والنهضة.
على رغم الإجماع على حماية الحريات، إلاّ أنه تبقى هناك قوى تمسك السلطة تحاول ممارسة الديكتاتوريّة وقمع الحريات وإسكات كل صوت معارض.
لكنّ الأمر غير المقبول والمفهوم هو خروج بعض الأصوات من قوى لطالما ناضلت من أجل الحرية والتحرّر تقترح بعض الافكار لضبط حركة الإعلام ومعاقبته.
وفي هذا السياق، برز موقف لرئيس الحكومة سعد الحريري الأسبوع الماضي خلال جلسة مجلس الوزراء مطالباً بـ”رفع الغرامات عبر محكمة المطبوعات على وسائل الإعلام لتشكل رادعاً، وهكذا تتحمل وسائل الاعلام المسؤولية في بث الأخبار”.
لم يفهم أحد على الشيخ سعد، ماذا يريد؟ ولماذا يضع نفسه في خانة إستهداف الإعلام الحرّ ويمنح “للطغاة” حلولاً لضرب آخر الحصون الحصينة الحرّة في لبنان؟ ولماذا يقترح رفع الغرامات طالما أنه يؤمن داخلياً بحرية الرأي ولم نشهد أن سمعنا بدعوى أو بعقوبة من السراي الحكومي خلال ولايته ضد وسائل الإعلام التي لا تترك فرصة إلا وتمس بكرامة موقع رئاسة الحكومة؟
لو تحدّث مسؤول آخر غير الحريري عن ضبط الإعلام لكان موقفه مفهوماً، لكنّ رئيس الحكومة نسي أو تناسى أن تياره ووسائل اعلامه عانوا من القمع خلال فترة الإحتلال السوري، ومنها إعلام “المستقبل”، كما وصلت الأمور إلى حدّ إقفال وسائل إعلاميّة مثل MTV.
ولأنّ لبنان بلد الحريّات، فإن إعلام “المستقبل” مارس هذه الحريّة على مدى السنوات الماضية، ولا ينسى أحد “مانشتات” جريدة “المستقبل” الناريّة التي كانت تخرج بين الحين والآخر، أو مقدّمات نشرات تلفزيون “المستقبل” التي كانت تبث الحملات السياسيّة، فهل كان ليقبل الحريري بتطبيق إقتراحه لمعاقبة وسائل الإعلام على إعلامه؟
لكن أهم من كل هذا، فإن تيار “المستقبل” كان الركن الأساسي في ثورة 14 آذار 2005، هذه الثورة التي نزل فيها الشعب اللبناني مطالباً بالحريّة والسيادة والإستقلال، ومعلوم أن الحريّة لا تتجزأ، ولا يمكنها أن تكون وجهة نظر.
ومن هذا المنطلق، ينسف الحريري كل مبادئ ثورة الأرز و”14 آذار” بمطالبته رفع الغرامة على وسائل الإعلام وتسليط السيف فوق رقابها، فالشعب الذي نزل منادياً بالحرية بعد طول فترة القمع لن يسمح بعودة ممارسات سلطة الوصاية، وبالتالي فإن الحريري بخروجه عن هذه المبادئ يروّج من غير أن يدري للأفكار والممارسات “العضوميّة” ويُدخل لبنان في مرحلة من الممارسات القمعيّة والتطاول على الحريات، متناسياً أيضاً ما عانى منه والده الرئيس الشهيد رفيق الحريري من ضغط على وسائل الإعلام لشنّ الحملات عليه تحت وطأة التهديد.
ولا يلوم أحد السلطة الحاكمة على ممارساتها لأنها لا تعرف معاناة الشعب، وبالتالي فإن وسائل الإعلام كانت تنتظر من الحريري ومجلس الوزراء الخروج بموقف داعم للإعلام لأنه يعاني من أزمة مالية، وهذه الأزمة دفعت الحريري شخصياً إلى إقفال تلفزيون وجريدة “المستقبل”، وإذ بالمفاجأة تخرج من فم الحريري مقترحاً رفع الغرامات، وكأن وسائل الإعلام في أحسن أحوالها وقادرة على الصمود، في حين يسجّل غياب وزير الإعلام المستقبلي جمال الجرّاح عن معركة الدفاع عن الحريات.
لا يدري الحريري أنه بأفكاره “العقابيّة” هذه يكمل ما بدأه خصومه أيام الإحتلال السوري، واستتبع بالهجوم على تلفزيون وجريدة “المستقبل” خلال أحداث 7 أيار 2008 وكل ذلك من أجل الإطباق على الإعلام وعدم السماح للصوت المعارض بالخروج.
لا يستطيع أن ينكر أحد أن الحريري كان جزءاً من ثورة الأرز، ولذلك يتمنى الجميع أن يبقى في هذا المكان، لا أن ينجرّ وراء حلفائه الجدد، ومن جهة ثانية لا يستطيع الحريري ان يطالب ويساند مطالب الشعب السوري بالحريّة والتخلّص من النظام القمعي، ويخرج بمقترحات في لبنان تصيب الحريات وتضربها في الصميم.