تحملنا بعض المغالاة المتصاعدة في قراءات الجولة الاولى من الانتخابات البلدية والاختيارية على التساؤل ماذا لو أجريت انتخابات نيابية اليوم وجاءت نتائجها معاكسة لكل التضخيم الحاصل ؟ لا يعني ذلك بطبيعة الحال التقليل من دلالات بارزة لتفلت الصوت الحزبي المسيحي في بيروت ، ولا من صعود قوة الثلاثي الحزبي في زحلة، ولا من مواجهة ” حزب الله ” للمرة الاولى معارك حقيقية في مناطق نفوذه . كل هذه مؤشرات على تفلت شعبي وأهلي طبيعي تحت وطأة اعتمال الازمات السياسية والحزبية أتاحت الانتخابات البلدية التعبير عنه بهامش أوسع بكثير مما تحسب له كثيرون . ومع ذلك قد تكون هناك مجازفات كبيرة إن أسقطت من الآن مناخات الانتخابات البلدية ونتائجها على مجمل الواقع الداخلي وصولا الى الانتخابات النيابية المقبلة. والحال ان ثمة نماذج “مفاتيح” واكبت جولة بيروت والبقاع تستدعي الرصد الطويل للحكم على صلاحية قياس الانتخابات النيابية المقبلة بوقائع الانتخابات البلدية الجارية.
اول النماذج يتصل بواقع الشارع البيروتي الذي تراءى للكثيرين انه تمرد على ائتلاف القوى السياسية وكاد يطيحه. واذا كان هذا شكل الوجه المتبدل في الشارع المسيحي اكثر من سواه فانه لم يتمكن من حجب الوجه الآخر الذي منع تحويل انتخابات بلدية بيروت فرصة لاسقاط الزعامة الحريرية ايا تكن الدوافع والعوامل وحتى ” التواطؤات ” المفترضة. ولا يمكن تاليا البناء على نسبة إقبال ضئيلة وتصاعد الرفض وحده لتوقع انتخابات نيابية زلزالية من الآن ما دام الشارع البيروتي الآخر صوب الوجهة حين تحولت المبارزة الى استفتاء على زعامة سعد الحريري .
النموذج الثاني شكلته زحلة حيث دفعت “الكتلة الشعبية” ثمن مواجهة غير محسوبة بدقة مع الأحزاب الثلاثة والطرف الزحلي الثالث واثبتت الأحزاب مراسها وقدرتها على توظيف نقاط القوة لديها والضعف لدى خصومها . ومع ذلك سيغدو غرورا تجاهل وقائع الأرقام التي تركتها المعركة اذا صح اعتمادها قياسا أوليا للانتخابات النيابية. فالأخطاء التي أسقطت الكتلة الشعبية بفعل استهانتها بتطورات افضت الى صعود تفاهم معراب العوني – القواتي، لا تتيح للأحزاب تجاهل بقاء الكتلة الرقم الثاني في زحلة، كما ان الفريقين سيكونان امام واقع مغاير حين تغدو الكتل المسيحية في زحلة أقلية امام الكتل السنية في الانتخابات النيابية.
اما النموذج الثالث فيتصل بـ “المجتمع المدني” ووسائل تطوره في العمل السياسي. فاذا كانت “بيروت مدينتي” تعد افضل تجربة قامت حتى اليوم في اقتحام العمل العام وحظيت بأفضل إشادة نظنها صادقة بالكامل من الرئيس سعد الحريري نفسه فلا نظن انه يخفى على نجوم هذه التجربة ان أسرع الطرق الى النسيان هو التمدد في عمر الرومانسية السياسية والاعتصام وراء رصيد سريع الذوبان.