مخطئ من يظنّ أنّ ميشال عون من قماشة السياسيين الذين يضعفون أمام الأزمات. العكس تماماً. فهو يزداد صلابة وعناداً كلما اشتدت من حوله الظروف، قساوة وضغطاً. ومن يعتقد أنّ الانهيار الحاصل قد يدفع به إلى التنازل أو التراجع خطوة إلى الوراء، فرهانه خاسر لا محالة، مهما كانت الأكلاف. بهذا المعنى كانت اطلالته التلفزيونية المقتضبة ليل الأربعاء الماضي حين قرر وضع رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري بين خيارين: التأليف أو الاعتذار. والتأليف هنا لن يكون بطبيعة الحال بمواصفات الأخير. ما يعني بالنتيجة، دفعه نحو الاعتذار اعتقاداً من الرئاسة الأولى، أنّ الظهير الاقليمي الذي يريده الحريري، والمقصود به السعودية، من هذا الخيار أيضاً… أقله هكذا يظنّ الفريق العوني.
ولهذا لم تكن خطوة الدفع التي نفذتها بعبدا نحو التأليف، من باب “الدفش” نحو الاعتذار، مفاجئة في مسار رئيسها المعروف بإصراره على تنفيذ ما في باله مهما كانت الأثمان. الصدمة أتت من بيت الوسط، وقد عبّر عنها بيان “المعاملة بالمثل” الذي سطّره الحريري ردّاً على خطاب رئيس الجمهورية، ليعيد قذف كرة النار بنفس الاتجاه: التوقيع على التشكيلة الموجودة في بعبدا، أو الاستقالة.
فعلياً، هي المرّة الأولى التي يقرر فيها الحريري مواجهة ميشال عون بالعلن. في كل الجولات السابقة، حاول تحييد رئيس الجمهورية لحصر اشتباكه برئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل الذي شيطنه الاعلام المستقبلي بشتى أنواع التوصيفات والعبارات. واذ به بالأمس يعدّل في قواعد الاشتباك ويرمي أسهمه بالمباشر ناحية سيّد القصر.
أكثر من ذلك، شطب رئيس الحكومة المكلف معادلة “سعد – جبران معاً في الحكومة أو خارجها”، لتصير، كما سبق لوزير الداخلية نهاد المشنوق أن أعلن عنها قبل نحو أسبوع على قاعدة “اعتذار رئيس الحكومة مقابل استقالة رئيس الجمهورية”. وقد تبنى الحريري هذه الجدلية ليطلقها بوجه رئيس الجمهورية، مسقطاً وبضربة قاضية، باسيل من تلك “الحسبة”.
منذ اندلاع انتفاضة 17 تشرين الأول وتقديم سعد الحريري استقالته، بدت معادلة الحريري- باسيل هي المتحكمة بمصير الحكومة المنتظرة. دأب العونيون على نفي رغبة رئيس حزبهم بالعودة إلى مقاعد الحكومة، لكن كل المؤشرات كانت تدل على أنه في ما لو عاد الحريري إلى السراي، فلن يُسمح له بالعودة من دون “رفقة” جبران باسيل… إلى أنّ وقع الخيار على حسان دياب. بعد انسحاب السفير مصطفى أديب الذي ما كادت الملعقة تصل إلى حلقه حتى سحبت من أساسها، عاد الحريري إلى الواجهة تحت عنوان المرشّح الطبيعي لرئاسة الحكومة. وعادت آمال جبران باسيل لتنتعش من جديد.
حتى الأمس القريب كان بعض العونيين يتحدثون عن حتمية تأليف حكومة تكنوسياسية بحجة أنّ حكومة التكنوقراط التي شكّلها حسان دياب فشلت في مواجهة التحديات والصعوبات، وتناسوا أنّ معظم القوى السياسية تواطأت على افشال هذه الحكومة وافراغ خطتها الاقتصادية – المالية من مضمونها. المهم، أن يكون الحريري هو رئيس الحكومة الجديدة، يعني فتح الباب من جديد، وفق عونيين، لدخول وزراء من نفس المعيار. لكن رئيس تيار “المستقبل” أبقى الباب مغلقاً بإحكام، وهذا واحد من أسباب “نقمة” العونيين على رئيس الحكومة المكلف والتسويق لفكرة اعتذاره، بحجة أنّه مرفوض سعودياً وعاجز عن تأليف الحكومة.
لكن ما الذي دفع الحريري لرفع سقف المواجهة إلى أعلاه؟
وفق المواكبين، فإنّ الرجل يشعر بأنه يتعرّض لانتقادات على المستوى الشخصي تأتيه من جانب الرئاسة الأولى، وهذا ما حتّم عليه التوجه بالمباشر لرئيس الجمهورية خصوصاً وأن كلام عون أحرجه وزركه في زاوية القبول أو الاعتذار، ولذا كان لا بدّ من الردّ على نحو حاسم لا سيما وأنه يلاقي دعماً بما يسمعه من المسؤولين الغربيين والعرب الذين يبدون اهتماماً بالملف اللبناني، لمواقفه ومعاييره في التأليف، وبات مقتنعاً أنّ تصلّب الفريق العوني لن يصل بالأخير إلى برّ الأمان. لذلك قرر فتح النار والتصويب بالمباشر على الرئاسة الأولى، حتى لو كانت النتيجة اتساع رقعة الأزمة وبالتالي حدّة التدهور والانهيار وكلفته. الأهم من ذلك، هو أكثر من مقتنع بأن ورقة جبران باسيل باتت محروقة، ولذا يتعامل معه على أنه بات خارج اللعبة.