ثمّة حلم يراود بعض السياسيين، بالوصول الى رئيس جمهورية «صُنع في لبنان». وتحقيق هذا الحلم يقدم دليلاً للعالم أنّ اللبنانيين بلغوا سنّ الرشد السياسي، وصار في إمكانهم أن يختاروا مَن يرَونه مناسباً لقيادة جمهوريّتهم.
هذا الحلم مشروع في نظر بعض الطاقم السياسي ولذلك تراه يراهن على إمكان تحقيقه في لحظة ما، أو حينما يأذن الله بمعجزة يسقطها على الواقع اللبناني.
لكنه في نظر بعض العاقلين من أهل السياسة، بمثابة حلم يقظة، ومجرّد تمنّ لا أكثر، خصوصاً وأنّ نظرة سريعة على تاريخ لبنان تبيّن أنّ رئاسة الجمهورية ما قبل الطائف وبعده لم تُصنَع إلّا خارج لبنان إذا ما استثنينا انتخاب الرئيس سليمان فرنجية.
واضحٌ أنّ «الحلم الرئاسي» بشقّيه الداخلي والخارجي لا يبدو ممكن التحقيق، في الداخل انقسامٌ حاد يشي باستحالة التوافق على رئيس صُنع في لبنان. نبيه بري له مرشحه، ولا يتردّد في إعلان تأييده لسليمان فرنجية، وليد جنبلاط يلتقي مع بري، سمير جعجع مع ميشال عون، ولا يتفق مع حزب الله، حزب الله، أولويّته وصول عون باعتباره خط الدفاع عن المقاومة والمسلمات والثوابت، وسعد الحريري مع سليمان فرنجية ويحاور عون، وتيار المستقبل أكثريّته مع فرنجية وبعضه مع عون.. مشهدٌ مُربك يشي بعدم الاستقرار على مرشح.
أكثر من ذلك، ها هي المبادرة الحريرية المتجدّدة تجاه عون تتعثّر وتصطدم بالحائط المسدود، لا بل انتهت الى الفشل وعادت الأمور الى نقطة الصفر، كما يقول مصدرٌ مطّلع على تفاصيلها.
ولسبب بسيط هو أنها كانت مضيعة للوقت. قد يُقال إنّ مبادرة الحريري عادت الى ضفة الالتزام بترشيح فرنجية، لكنّ تواصل الحريري عون خلق ندوباً و»نقزة» بين بيت الوسط وبنشعي.
وأما في الخارج، فالمشهدُ واضح لا لُبس فيه؛ كلّ الخارج العربي والغربي منصرف عن لبنان الى أزماته وأولويّاته واهتماماته الداخلية والخارجية:
– الفاتيكان، وكما ينقل زواره أخيراً، يشجع على إتمام الرئاسة، وأن يدرك اللبنانيون مصلحة بلدهم. ولأنّ المشهد اللبناني منقسم على ذاته، وغير قابل للتقارب، لا توجد لدى الفاتيكان أية مبادرة. ويكتفي بتشجيع بكركي على الحث على إجراء الانتخابات الرئاسية.
– فرنسا، دخلت على الخط، وفشلت في إخراج أية صيغة رئاسية. ثمّ سرعان ما انكفأت الى داخلها لتحصين نفسها من الإرهاب الذي ضربها ويهدّدها.
– إيران تبدو منكفئة، لكنها مسلّمة كلّ الأوراق الرئاسية الى «حزب الله»، وملتزمة بما يقرّره حيال هذا الأمر.
– مصر، راغبة في لعب دور رئاسي، لكنها لا تملك مبادرة في هذا الشأن، حضر وزير خارجيّتها وغادر خالي الوفاض، حاول تجميع الأوراق، فكانت محاولة ناقصة بتمنّعه «الإطلاع» على ورقتي «حزب الله» ووليد جنبلاط. قطع وعداً بالمساعدة، ولكن كيف سيفي به، طالما أنّ الورقة الرئاسية السحرية بعيدة عن متناوله، ومخبّأة أو محجوزة في أدراج اللاعبين الدوليين الكبار.
– السعودية عينها على داخلها، وقد رسّمت حدود أولويّاتها (اليمن، سوريا، العراق، البحرين، مواجهة إيران و»حزب الله»).
لذلك، هي لم تحرّك ساكناً حيال بعض الأفكار التي طُرحت أخيراً على الخط الرئاسي، ولم تقدّم ولو إيماءة أو إيحاء بأنها معنيّة بالتواصل الأخير بين الحريري وعون، كما أنها لم تعطِ أية إشارة من قريب أو بعيد حول إمكان تدخّلها سلباً أو إيجاباً، لا بالملف الرئاسي وشخصية الرئيس ومواصفاته، ولا بالملف الحكومي وموقع الحريري فيه.
كما أنّ أيّاً من السياسيين اللبنانيين، سواء أصدقاء المملكة أو خصومها، لم يلاحظوا أنها بصدد فصل ملف لبنان عن ملفات المنطقة، أو أنها غيّرت موقفها، سواء تبنّي ترشيح فرنجية أو رفض عون للرئاسة. في الخلاصة يبدو أنّ كلّ الحراك الأخير بين بيت الوسط والرابية قد جرى خارج الصحن السعودي.
– الولايات المتحدة الأميركية، منشغلة بانتخاباتها الرئاسية، ولا مكان للبنان في جدول اهتماماتها في هذه المرحلة. ولأنّ أولويّتها داخلية، فإنّ موقفها من الرئاسة اللبنانية، لا يعدو أكثر من تاكيد متكرّر بأنها توافق على ما يتفق عليه اللبنانيون.
المتصلون بالإدارة الأميركية يلمسون أنّ الرئاسة في لبنان هي آخر ما يهمها، ولا يبدو أنها معنيّة بكلّ ما يدور حولها، وتبعاً لذلك ليست في وارد القيام بأية مبادرة على الصعيد الرئاسي في هذه المرحلة، وبالتالي هي لا تمانع لا بوصول عون، ولا فرنجية، ولا حتى أيّ اسم آخر.
وفي الوقت ذاته يريحها وصول سعد الحريري الى رئاسة الحكومة في لبنان، لكنها تفضل ألّا تدخل في هذه التفاصيل مع أيّ طرف لبناني، أو إقليمي، علماً أنّ شخصيات لبنانية تمنّت على الإدارة الأميركية لعب دور في هذا المجال.
أكثر من ذلك، حدّد ديبلوماسيون أميركيون أمام شخصيات لبنانية، أولويات الإدارة الأميركية راهناً، كما يلي:
– الاستقرار الدائم في لبنان، وإبعاده عن كلّ المسببات التي تمسّ به.
– تقوية الجيش اللبناني ومدّه بما يحتاجه من سلاح وعتاد الى الحدّ الذي يجعله ينتصر في حربه على الإرهاب. وفي هذا السياق تمّ إبلاغ قائد الجيش العماد جان قهوجي بأنّ المخازن الأميركية مفتوحة أمام الجيش لمواجهة المجموعات الإرهابية «اضربوا الإرهابيين قدر ما تشاؤون، ولا تقلقوا على السلاح».
– واشنطن تدرك التركيبة اللبنانية والموازين القائمة فيها، ورغم أنها ما زالت تعتبر «حزب الله» منطمة إرهابية، إلّا أنها ليست في وارد الدخول في اشتباك مباشر أو غير مباشر معه في لبنان وتحت أيّ عنوان، خصوصاً أنّ الحزب في نظرها لا يشكل فقط قضية لبنانية، بل هو قضية إقليمية ودولية.
– الإدارة الأميركية منهمكة بأمور أكبر بكثير ممّا يتصوّر العرب واللبنانيون، هي تحارب سياسياً وانتخابياً لكي لا يصل دونالد ترامب الى الرئاسة الأميركية، وفي الجانب الآخر أمامها، وأمام الإدارة الأميركية المقبلة حرب أخطر هي الحرب على الإرهاب، والتي ستكون أشمل وأكثر فعالية من أيّ وقت مضى.