يجد الرئيس سعد الحريري نفسه أمام مُعضلة جديدة تفوق أزمة إجباره على الاستقالة. بحسب ما يسوّق له أتباع ثامر السبهان ومعارضو التسوية الرئاسية، فإن «الرجل سيكون مجبراً على تغيير رعاة التسوية واستبدالهم بآخرين لإدارة المعركة ضد حزب الله وميشال عون». فهل سنرى تيار المستقبل بـ«نيو لوك»، أم أن الحريري سيُبقي القديم على قدمه؟
منذ لحظة استقالة الرئيس سعد الحريري من الرياض، رفع تيّار المُستقبل جاهزيته الى حالة التأهّب القصوى. العودة القوية للقبضة السعودية بأسلوب فجّ تمثّل في احتجاز رئيس حكومة على مدى أسبوعين، أكدت نيّة المملكة عدم الحفاظ على حليفها اللبناني الأول، إذا ما أبقى على نهجه المستمر منذ انتخاب العماد ميشال عون رئيساً. لدى السعودية رغبة جامحة في العودة الى السلوك القديم الذي كان سائداً بين عامي 2005 و2009، وبين 2011 و2016 حيث لا مكان للاعتدال والتسويات.
المطلوب استعداء المقاومة من دون مواربة. وقد تجلّى هذا الواقع صراحة في استحضار بعض «الأرواح» السياسية، وإحياء السير الذاتية لبعض الشخصيات التي طوتها مرحلة التسوية، حتى تعود إلى الساحة، وبلا سابق إنذار، وتُفرض على الحريري لسبب وحيد، هو تماهيها مع المشروع السعودي في لبنان. هذا الأمر يطرح السؤال عن المجهول الذي ينتظر الدائرة الضيقة لـ«الشيخ سعد» وقد بات أفرادها من المغضوب عليهم في البلاط الملكي لأنهم «تسبّبوا في خذلان المملكة وقادوا الحريري إلى التنازلات»، وفق ما يروّج بعض الذين أفل نجمهم في الفترة السابقة.
لم يكن «رجال السبهان» بين مستقبلي الحريري في باريس
هل سنرى التيار بعد عودة الحريري إلى البلاد بـ«نيو لوك» ومشهد جديد؟ وهل سيُصار إلى إعادة هيكلته بالشكل الذي يُرضي السعودية؟ ما هو مصير الجناح السبهاني؟ ما الذي ينتظر الجناح الذي قاد الحريري إلى رئاسة الحكومة وأسهم في إرساء الاستقرار طيلة العام الماضي؟ هل سيطال التغيير الذي قيل إنه مفروض على الحريري دائرته الضيقة وحسب، أم سيمتدّ إلى كلّ مفاصل التيار؟
يُثير هذا الجو الكثير من الجدل والنقاش داخل التيار. إلا أن كل كلمة تُقال تبقى في إطار التحليل والنظريات، إذ «لم تصدر كلمة واحدة عن الحريري بعد». لكن الطرف المعارض للتسوية لا ينفكّ يسوّق «أننا أمام تغييرات جديّة، سيكون أول المتضررين منها رعاة التسوية الذين وثّقوا علاقتهم بعون وحزب الله». ويأخذ هذا التحليل مداه إلى حدّ بات يُعتبر فيه أن «هؤلاء يستعدون لمرحلة العقاب». غير أن التثبّت من كلامهم لا يزال ينتظر موقفاً أو إشارة من الحريري نفسه لرسم معالم المرحلة المقبلة.
وفيما لا يزال الأخير يتأنى في إصدار أي موقف من خارج البلاد، بدأت السعودية تهيّئ «رجالها» في لبنان، من الذين وقفوا معها مؤخراً ودعموا خطوتها. فقد كان لافتاً إقامة السفارة السعودية أمس فطوراً على شرف رضوان السيد ومصطفى فحص، وكأنها تُعدّهما للعب دور ما في المستقبل، مع تداول شائعات نشرها الطاقم القديم (ما قبل التسوية) الذي كان يحيط بالحريري أن «السيد سيكون على رأس المستشارين في بيت الوسط، إضافة إلى الرئيس فؤاد السنيورة وآخرين»، مقابل «انحسار دور كل من الوزير نهاد المشنوق ونادر الحريري وغطاس خوري وهاني حمود». ويتحدث مطلقو الشائعة عن «اتفاق الرئيس الحريري مع المملكة على إعادة هيكلة التيار من جديد، على أن يطال هذا التغيير الأمانة العامة والأمين العام أحمد الحريري المتّهم أيضاً بدعم التسوية، كذلك إعادة خلط الأسماء في بعض المنسقيات». واللافت أن أتباع السبهان في تيار المستقبل أصبحوا يتصرّفون كما لو أن هذه الفكرة باتت واقعاً ملموساً، متحدثين عن أن «الحريري سيلزم الجميع بالصمت في المرحلة المقبلة، وسيصار إلى حصر التصريحات بشخصية أو اثنتين، لضبط الخطاب». أما عقاب صقر ونديم قطيش، «فسيحدّد الرئيس الحريري دورهما في المرحلة المقبلة».
لكن كل هذا الكلام لا يبدو قريباً من الواقع، إذا ما تم النظر إلى سير الأمور منذ اللحظة التي حطّت فيها طائرة الرئيس الحريري في فرنسا؛ ففيما بقي صقر في لبنان، بشكل فاجأ الجميع، سبقت الدائرة الأصلية «الشيخ» إلى باريس لانتظاره. وكان أعضاؤها أول من التقاهم الحريري في اجتماع مغلق لوضعهم في صورة ما حصل، وهو دليل على أنهم ما زالوا الأقرب إليه ومحط ثقة بالنسبة له. وجدير بالذكر أن قطيش الذي سبح عكس تيار المستقبل طيلة الأزمة لم يحضر اجتماع الحريري بالمقربين منه، إذ علمت «الأخبار» أن «رئيس الحكومة تعامل معه مثله مثل أيّ إعلامي ذهب لتغطية الحدث»!
ما سيكون مطروحاً في الأيام المقبلة لا يعلمه إلا الحريري وحده، وبالتأكيد أنه أطلع عليه الدائرة المقرّبة منه خلال الاجتماع بهم في العاصمة الفرنسية. هذا ما تقوله مصادر هذه الدائرة التي أكدت «وجود فريقين مستقبليين؛ فريق يرضى عنه السبهان وفريق آخر يريد استبعاده». وهذا الفرز «لا شكّ أن المملكة تريد فرضه على الرئيس الحريري، من دون معرفة ما إذا كان حاضراً لتحقيقه ومستعداً له».
ليس سعد الحريري قبل الاستقالة هو ذاته بعدها، «لكن هل من الطبيعي أن يستبدل الطاقم المحيط به بوجوه مثل رضوان السيد وفارس سعيد ومصطفى فحص ونديم قطيش»؟ وهل بإمكانه أن «يحيط نفسه بعقول متهوّرة بدلاً من العقلانيين»؟ كلّه متوقف على «التعهّد الذي قطعه الرجل للمملكة»، تقول المصادر. فإذا «كان عائداً بمشروع مواجهة، لا بدّ له أن يعيد مجموعة العقلانيين إلى الخطوط الخلفية، لأنها لم تعُد تتناسب مع المرحلة الجديدة». بالطبع لن يكون سهلاً على الحريري أن يجرّد نفسه من هذه الدائرة، إلا مُكرهاً. وهو لا يريد الدخول في مواجهة جديدة مع السعودية، بل يخشى في حال قرر إبقاء القديم على قدمه أن يُفهم ذلك في الرياض تحدياً لها. أضف إلى ذلك أن طرد «السبهانيين» من منزل الحريري في وادي أبو جميل ستفهمه الرياض رسالة سلبية لها.
حتى الآن لا شيء محسوماً، في ظلّ التكتمّ على النقاش الذي حصل بين الحريري وفريقه الأساسي. وبناءً عليه ينتظر تيار المستقبل عودة الرجل الى البلد، لمعرفة ما إذا كان هناك قرار بتغيير الموازين داخل التيار، وما إذا كان قد مهّد للرباعي المقرّب منه (المشنوق، خوري، نادر الحريري، حمود)، خريطة المرحلة المقبلة، واتفق معهم على كيفية تطبيقها، في ظل ما يواجهه من عقبات وإشكاليات لن تساعده على لملمة الأوضاع داخل التيار وتحصينه، بعد ما تعرض له.