بعد مرور كل هذه الأعوام، حبلى بكل أنواع التطورات السلبية التي طاولت البلاد والعباد بعد عملية الإغتيال المشؤومة التي فجرت رئيسا للحكومة ومعاونيه وفجرت معه الوطن بأسره، وإعادته وطنا ممزقا مشتتا ومنهارا بعنف وشدّة إلى مزالق جهنم ومتفرعاتها بكل الخبايا والخفايا التي اغتالت في الواقع، زعيما وطنيا، تمكّن بشخصيته القيادية الفريدة وبقدراتها الهائلة من لملمة الأوضاع المتعثرة، وإطلاق لبنان الصامد والمكابد بكل الجهود والطاقات، من أجل النهوض والخروج من المزالق المتنوعة والمعقدة، إلى آفاق القيادات المحلية والإقليمية والدولية الرائدة، حتى إذا ما تألبت الجهود الرامية إلى قلب أوضاع هذا الوطن المنكوب رأسا على عقب، من خلال عمليات الإغتيال الآثمة وفي طليعتها عملية القضاء على زعامة وقيادة تاريخية قُدّر لهذا الوطن المنكوب أن يحظى بولايتها ورعايتها على مدى سنوات كانت حافلة بواقع النهوض الإقتصادي والبناء والعمران بشتى صوره وأشكاله.
سبعة عشر عاما مرّت على الجريمة النكراء، وتبقى في الذاكرة، جملة من المزايا الباهرة التي رافقت الرئيس الشهيد طيلة سنوات حياته الحافلة والزاخرة بالصفات الإستثنائية التي يندر وجودها في مكامن قائد فذ يختلط نهاره بليله، ويطلب إلى مواكبيه (ومنهم كاتب هذا المقال وسواه)، أن يستغلوا معا دقائق الفراغ القليلة لديه ليطلب منهم الإتصال بمن يعرفون من الأشخاص الشعبيين دون أن تكون له بهم سوابق معرفة، حتى إذا ما تم هذا الإتصال الفجائي: أبو عبد… دولة الرئيس الحريري يريد مكالمتك، فتكون ردة الفعل :«بسّ بقى… ما تمزح معي» حتى إذا ما تبين لأبو العبد وأمثاله ممن يتم الإتصال بهم، أن الذي يكلمه هو دولة الرئيس، تكون المفاجأة والمكالمة وخلق سبل من العلاقات الشعبية التي تمكّن رحمه الله من تكوينها على مستوى واسع، سواء في بيروت أم في مناطق أخرى في لبنان متسلحا في ذلك بقدرة هائلة على استقطاب واستنهاض الأفراد والجموع.
وفي ذلك اليوم المشؤوم الذي تمت خلاله عملية الإغتيال كنت في متابعة عمل لي في غرفة التجارة والصناعة، حيث صادف أن تمت عملية التفجير الآثمة وما رافقها من دوي هائل طاول آذان البيارتة جميعا، وبعفوية طاولتني خلال عملية الإنفجار وجدت نفسي أردد: انه دولة الرئيس رفيق الحريري أنهم قد فجّروه، وقد كان التفجير واقعا لا استنتاجا، كان لدولته كلام عمّ الأجواء كلها ردّد فيه قولا وداعيا مأثورا: أنني استودع الله لبنان الحبيب، وبالفعل التفجير الآثم ترك شهيد لبنان وديعة غالية، بل ترك لبنان بأسره في صلب مأساة لم تتضح معالمها وآثارها الفاجعة والمغيرة في صلب الواقع اللبناني وصموده تجاه كل السلبيات والإستهدافات التي لم تتناول شخص الشهيد بقدر ما تناولت مسيرة وطنية وكيانية بأسرها، وجهودا نهضوية لم يسبق أن كان لها مثيل في بلد أمسكت بخناقه شتى أنواع المناورات والقرارات التي تناولته بذلك التفجير المشؤوم.
… ماذا بعد عملية الشؤم والوجوم والشجون الهائلة التي أطلّت بعد الجريمة النكراء، مخلفة البلاد والعباد في وضعية انقلابية قلبت الأوضاع العامة رأساً على عقب، وأورثتنا وضعية لبنانية شديدة الغرابة والتحوّر. لبنان تمدد في تطلعاته المستجدة إلى خارج حدوده… إلى أبعاد حولت كيانه العربي الأصيل إلى امتدادات بالغة البعد عن حقيقته التي نشأت وتطورت في صلب هذه المنطقة من العالم، لبنان ذو الوجه العربي، أصبحت له جملة من الوجوه وعديد من الإنتماءات التي أدختله في جملة من التحديات والمواجهات والحروب، وجردته من كثير من امتداداته التاريخية التي سبق لها أن وفرت له العديد من الإمتدادات والعلاقات والنجاحات لعل من أهمها تلك المرحلة التي قادها الرئيس الشهيد بزخم وشمولية ونجاج ملحوظ.
وماذا بعد: تدور الأيام وتزداد في هذه البلاد المنكوبة، غوصا في وحول وأهوال بات جليا للقريب والبعيد أنها لا يمكن أن تؤدي إلاّ إلى مزيد من الخراب والدمار والغوص اللامتناهي في دنيا المجهول المرعب، وها هو الوجود السني عموما والبيروتي خصوصا، يغرق في مجاهل لا يعلم إلاّ الله مدى سلامتها وصوابيتها وقدرتها على إصلاح الأوضاع السائدة والتي تساهم في نقلنا إلى عالم مجهول ومصير تستولي عليه أعداد هائلة من علامات الإستفهام الخطيرة.
رحم الله الرئيس الشهيد. رحم الله تلك المرحلة التي كان يمكن أن توصلنا جميعا إلى برّ النجاة، ولكنه الإنفجار القاتل… استهدف في ضمن استهدافاته المصير اللبناني كله. ولنا في مقبل التطورات المتوقعة، بعض من مسالك الأمل ومنافذه.
المحامي محمد أمين الداعوق