شكّل اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005 صدمة سياسية وشعبية كبرى بسبب الانطباع الذي كان سائداً بأنّ شخصية بحجم الحريري عربياً ودولياً لديها من الحصانة التي تُبعد عنها الاغتيال، فضلاً عن انّ أسلوبه لم يكن صدامياً. وبالتالي، لماذا اغتيل؟
يصعب عدم ربط اغتيال الشهيد الحريري في 14 شباط 2005 بالقرار الدولي 1559 الذي صدر في 2 أيلول 2004، اي بعد خمسة أشهر على صدور هذا القرار، وبعد ثمانية أشهر على الاحتفالات بالعيد الستين لإنزال النورماندي في حزيران 2004، والتي جمعت الرئيسين جورج بوش وجاك شيراك وكانت مناسبة للمصالحة بينهما بعد الخلاف حول العراق ومن ثمّ التقاطع حول لبنان، حيث اعتبر محور الممانعة انه في حال لم يكن الحريري مُساهماً بهذا القرار بفعل صداقته مع شيراك فكان بإمكانه تعطيله.
ولا شك في انّ القرار 1559 سرّع في الاغتيال ليس فقط من زاوية انتقامية، إنما سعياً للتخلُّص من الشخصية الأكثر قدرة بعلاقاتها وحيثيتها على التقاطع مع هذا القرار وترجمته لبنانياً، وبهدف فرض أمر واقع يعيد الأوضاع إلى ما قبل صدوره، ولكن هذا لا يعني إهمال السياق الخلافي الطويل مع الحريري والذي يمكن اختصاره بالتالي:
أولاً، لم يُغيَّب المكون السني عن الاتفاق الثلاثي الذي حصل برعاية الرئيس حافظ الأسد بالصدفة، إنما لأنه يخشى من صعود الدور السني في لبنان وارتداداته المحتملة على الداخل السوري، وهذا بالذات ما جعله في مواجهة مع الثورة الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات خوفاً من تمددها إلى سوريا، فضلاً عن انّ المُكوّن السني يحظى برعاية عربية تبدأ بالقاهرة ولا تنتهي بالخليج، ما يشكل قلقاً دائماً للنظام السوري.
ومع إقرار اتفاق الطائف ونجاح الأسد في استبدال النسخة اللبنانية بنسخة سورية تأسيسًا على الظروف المحلية (حرب الإلغاء) والإقليمية (حرب الخليج الثانية) وانتزاعه تفويضًا أميركيًا بإدارة لبنان، اضطر إلى استبدال المكوِّن المسيحي في الاتفاق الثلاثي بعدما عاد واصطدم معه بالمكوِّن السني إرضاءً لدول الخليج التي انشغلت بتطور اجتياح الرئيس صدام حسين للعراق.
وأرسى الأسد توازناً في لبنان بين السعودية من خلال الحريري من جهة، وإيران من خلال «حزب الله» من جهة أخرى، فسَلّم الأول الشق المالي والاقتصادي والإعماري، وسلّم الثاني الشق الأمني والعسكري، وكل ذلك طبعاً بإشرافه وتحت إدارته وسيطرته. وقد نجح الأسد الأب بإقامة علاقة متوازنة مع طهران والرياض في آن واحد خلافاً لنجله الذي لم ينجح بذلك، فيما كان القرار السياسي للبنان بيده بشكل كامل.
ثانياً، انتقال الملف اللبناني من الأسد الأب إلى الأسد الابن في العام 1998 شكّل تحولا أساسيًا في علاقة النظام السوري مع الحريري، حيث وجد بشار نفسه غير قادر، خلافاً لوالده، على التعاطي مع شخصية من وزن الحريري، وهذا الانتقال في الملف حصل على أثر التراجع بصحة حافظ الأسد ورغبة الأخير في إعادة تحجيم الدور السني قبل وفاته تلافياً لصعود لا يتمكّن نجله من ضبطه والسيطرة عليه في لبنان وسوريا، وخوفه الأساسي كان من صعود سني في لبنان يُخرج الحالة السنية في سوريا من القمقم على غرار ما حصل لاحقاً مع ثورة الشعب السوري.
ثالثاً، إسقاط نظام الرئيس صدام حسين في العراق في العام 2003 فتح أبواب المنطقة أمام الثورة الإيرانية التي كانت تستفيد في لبنان من عمقها السوري، ولكن بعد سيطرتها على العراق أصبحت على حدود سوريا، وقد وجدت هذه الثورة بالرئيس رفيق الحريري عقبة أساسية أمام تمددها في لبنان وسوريا والعراق بسبب حيثيته السنية وحجمه العربي والدولي الذي يشكل عائقا وسدا منيعا لتوسعها ونشر ثورتها.
وكان قد سبقَ سقوط صدام تحولات لبنانية مهمة أبرزها انسحاب إسرائيل من لبنان وموت حافظ الأسد، ومطالبة الكنيسة المارونية بخروج الجيش السوري بعد خروج الجيش الإسرائيلي، وتشكيل لقاء سياسي (قرنة شهوان) ضد الوجود السوري في لبنان، وانطلاق دينامية سياسية توِّجت بلقاء البطريرك مار نصرالله بطرس صفير مع رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط تحت عنوان المصالحة في الجبل، وبدايات التقاء المعارضة مع الرئيس رفيق الحريري.
وفي موازاة الاهتزاز السياسي في لبنان، فإن المنطقة كانت تشهد اهتزازات متواصلة على أثر اجتياحها من قبل الولايات المتحدة الأميركية ردا على أحداث 11 أيلول 2001، ولم يتمكن بشار الأسد الذي استلمَ السلطة حديثاً من مواجهة أرض متحركة في لبنان والمنطقة في آن معاً، وفشل في إمساك عصا العلاقة بين طهران والرياض من وسطها، ومع تفاقم مخاوفه وازدياد الضغوط عليه تقدّم الدور الإيراني في سياق تمدُّد الثورة الإسلامية التي أرادت السيطرة على لبنان بعد سيطرتها على العراق بهدف تشييد جسر متين بين طهران وبيروت، والعائق الأكبر أمام هذا المشروع كان الرئيس رفيق الحريري الذي تحوّل إلى الشخصية السنية الأبرز في العالم العربي والإسلامي والتي لديها علاقة وثيقة ومتينة مع عواصم القرار الدولية.
رابعاً، العائق أمام مشروع الثورة الفلسطينية في لبنان كان مسيحياً، والعائق أمام مشروع الهيمنة السورية كان مسيحياً، ومع تغييب المكوِّن المسيحي تحوّل الحريري إلى العائق أمام تمدُّد مشروع الثورة الإسلامية الإيرانية، فتقرّر إزاحته من المشهد السياسي كما كان قد تقرّر إزاحة المكوِّن المسيحي، إذ كان يستحيل سيطرة محور الممانعة بعمقه الإيراني على لبنان في ظل الحريري ودوره وشبكة علاقاته.
خامساً، على رغم الاحتلال السوري للبنان نجح الحريري عن طريق خطته للنهوض في الداخل وشبكة علاقاته مع الخارج في اختراق قرار السيطرة السورية على لبنان ومنح وطن الأرز حيّزا مهما من الاهتمام الدولي، هذا الاهتمام الذي لم يكن صداميا مع دمشق، ولكنه أعاد الاعتبار لموقع لبنان المغيَّب سوريا وخلافا لإرادتها، ما جعلها تتوجّس من هذا الدور الذي أعاد الاهتمام الدولي بلبنان بفِعل التوازن الذي فرضه على الساحة اللبنانية.
سادسا، الفارق الأساس بين رفيق الحريري و»حزب الله» ان الأول حافظَ على الخط اللبناني ونمط عيش اللبنانيين ووضع كل ثقله لإبقاء لبنان طليعيا في القطاعات التي شكلت ميزته الأساسية في السياحة والتعليم والاستشفاء والمصارف وغيرها من القطاعات، وذلك تجسيدا للخط اللبناني الذي بدأه رياض الصلح واستكمله رفيق الحريري، فيما الثاني عمل ويعمل على تغيير هوية لبنان ونسف خطه وتبديل دوره وأعاد بسيطرته على مفاصل الدولة استنساخ تجربتي المجاعة في الحرب العالمية الأولى، والانقسام والانهيار والمآسي في زمن الحرب اللبنانية.
شكل الرئيس رفيق الحريري علامة لبنانية فارقة ومميزة بشخصه وعلاقاته ودوره وديناميته وطموحه وعمله ومشروعه، وأراد منذ لحظة دخوله الرسمي إلى الحياة السياسية اللبنانية إدخال لبنان إلى الحداثة والتطور ولغة العصر، وهي لغة المال والاقتصاد والازدهار، ونجح في تجاوز كل المعوقات والعقبات والعراقيل التي وضعها النظام السوري أمامه من التشويش عليه داخل الحكومات وتكبيل حركته، إلى إبقاء القرار الأمني بيد ميليشيا، وما بينهما القرار السياسي في دمشق، وعلى رغم كل ذلك أعاد وضع لبنان على الخارطة الدولية ونقله من واقعه المدمّر بعد الحرب إلى واقع متطور ومُنافس وحديث، ولكنهم تحيّنوا اللحظة لاغتياله لأنّ المطلوب إبقاء اللبنانيين في مستنقع الانهيار بهدف تهجيرهم تغييراً لهوية البلد ودوره، كما إبقاء الدولة معزولة وفاشلة ومارقة على نسق دولة المحور الأم إيران.