لو لم تكن هناك إشارات جدّية إلى تسوية، على الأقل في مسألة الحكومة، لما تحرَّك الرئيس نبيه بري في مبادرة جديدة، ولما خرج الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله بما يشبه «التكليف الشرعي» للقوى السياسية بالتسهيل: «دبِّروا راسَكم وحلّوها»!
مثيرةٌ لعبة التأزُّم الحكومي وخلفياتها. والتأمُّل في خريطة التحالفات والخصومات الظاهرة والمستترة بين القوى الثلاث الأساسية المعنية بالملف، يتيح إيضاح الكثير من المعطيات:
1- الفريق الشيعي لا يطلب شيئاً لنفسه علانية، ويبدو متفرجاً أو وسيطاً، ويصرّ على التموضع في موقع المحايد في الخلاف الدائر. لكنه مطمئن، في أي حال، إلى أن لا حكومة ستولد إلّا وفق رؤيته، وأنّه سيحقق فيها ما يريده كمّاً ونوعاً، أي أنّه سيحتفظ بالقدرة على التحكّم بالقرار الأقوى.
2- فريق الرئيس ميشال عون ورئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل يخوض معارك عاتية، في ملف الحكومة وخارجه، من أجل ضمان الحضور بقوة حتى نهاية العهد والاستمرار في السلطة خلال العهد المقبل، إما بوصول باسيل إلى الرئاسة وإما بالتمديد لرئيس الجمهورية حتى توفير الظروف لباسيل. فهذا الفريق يخشى فعلاً اختلال التوازنات بين القوى داخلياً وخارجياً، ما يؤدي إلى خسارته، وخصوصاً خسارة الفرصة المتاحة للتحكّم بالعهد المقبل، أي فرصة باسيل كخَلف لعون.
3- الرئيس سعد الحريري يتموضع في موقع الدفاع لا الهجوم، وأقصى طموحه هو القدرة على الاحتفاظ بالدور والصلاحيات كرئيس للحكومة، خصوصاً على أبواب انتخابات نيابية ورئاسية حسّاسة. ولأنّ الحكومة هي السلطة التنفيذية عملياً، يخشى الحريري أن تُرمى في وجهه كرة الانهيار الملتهبة فيحترق عشية الاستحقاقات، وينجو الآخرون بغسل الأيدي.
النظرة السطحية إلى اللعبة، التي تتلهّى بها أوساط السياسة والإعلام، توحي بأنّ مشكلة تأليف الحكومة واقعة بين فريقي عون- باسيل والحريري، وأنّها مشكلة حصصٍ وحقائب، وأنّ الفريق الشيعي يضغط على المتصارعين ليتوافقوا ويحلّوا الأزمة.
لكن النظرة العميقة في الأزمة تقود إلى رؤية أخرى: هل صحيح أنّ ما أخّر تأليف الحكومة، منذ تكليف الحريري قبل 7 أشهر، هو هذه التفاصيل الداخلية بين الطرفين الموجودين في موقع الضعيف أو المدافع عن نفسه، أم هو عقدة تمثيل «حزب الله» ومستوى نفوذه في الحكومة بشكل مباشر، أو غير مباشر من خلال حلفائه من مسيحيين وسنّة ودروز في الحكومة؟
وهل صار خلاف عون- الحريري على حقيبة وزارية أو حقيبتين أقوى تأثيراً في عرقلة التأليف من صراع واشنطن- طهران المحتدم منذ عهد الرئيس دونالد ترامب حتى اليوم حول مسألة: ما مقدار سيطرة «حزب الله» على القرار في الحكومة اللبنانية المقبلة، وعلى القرار المركزي في لبنان عموماً؟
أكثر من ذلك، إنّ كلاً من طرفي الصراع المسيحي والسنّي داخل السلطة يتحرَّك بالتنسيق مع أحد الطرفين الشيعيين، أو تحت عباءته. فعون وباسيل يتعاونان عميقاً مع «حزب الله»، فيما الحريري يتعاون مع بري. ولذلك، يمسك الفريق الشيعي عملياً بزمام اللعبة، من طرفيها، إلى حدّ كبير.
وفي النهاية، لن يكون «الحزب» مضطراً إلى القبول بالحلّ، ما لم يكن مناسباً لمحور طهران. وبديهي أن يدعمه فريق عون- باسيل. وفي المقابل، لا يمتلك الحريري هامش تأليف حكومة تتحدّى الأميركيين والسعوديين، مهما حاول ترسيخ صورته كـ»مستقل».
هذه الاستنتاجات ضرورية للإجابة عن السؤال الحيوي المطروح اليوم: ما حظوظ مبادرة الرئيس نبيه بري في حلحلة العُقد واستيلاد حكومة جديدة؟
المراقبون يربطون بين 3 عناصر تترك تأثيرها على الوضع اللبناني مباشرة:
– المفاوضات الناشطة والمستجدة على خطوط الولايات المتحدة وإيران والسعودية وسوريا وروسيا.
– الانهيار الداخلي بكل مقاييسه وأبعاده.
– اقتراب الاستحقاقات الانتخابية التي ستعيد تشكيل السلطة في لبنان.
وأي فرصة لنجاح أي مبادرة لتأليف حكومة جديدة ترتبط بوجود ضوء أخضر خارجي، وتحديداً إيراني وأميركي. ولذلك، يتوقف المراقبون عند دعوة السيد نصرالله الملحّة إلى إنتاج حلّ في ملف الحكومة، عشية انطلاق رئيس المجلس في جولات الوساطة. وفي الموازاة، يمكن التنويه بزيارة سفيرة الولايات المتحدة دوروثي شيا لعين التينة.
إذا تبيّن أنّ مبادرة رئيس المجلس تحظى فعلاً بتغطية طرفي الصراع في الخارج، واشنطن وطهران، فهذا يعني أنّ الجميع يستعدّ لما يمكن أن تبلغه المفاوضات الجارية والمتوقّعة بين فيينا وبغداد ودمشق وجنيف وسواها، وأنّ الكلام الذي يسرّبه المعنيون عن احتمالات الحلحلة في لبنان يرتدي طابع الجدّية.
في هذا الشأن يقول ديبلوماسي عتيق: « إحذروا. عندما يطلع الصباح، يبادر الديك إلى الصياح. ولكن، لا يَرتجي الديك أن يطلع الصباح بمجرد قيامِه بالصياح. وهكذا، هي التسويات في لبنان، تؤشّر إلى ولادة تسويات أكبر منها، في أمكنة أخرى. والأيام المقبلة ستُظهر إذا كانت هناك إشارات حقيقية إلى تسويات في الإقليم ولبنان، أو إنّ الحراك الجاري سيكرّس المراوحة».
ولكن، أياً يكن الأمر، وفيما الحريري يتجنّب خيار انتحاره سياسياً، وعون يتجنَّب نَحْر باسيل سياسياً، يبدو واضحاً أنّ الفريق الشيعي وحده غير مرشح للانتحار، وأنّه سيمسك بزمام الحلّ عندما يحين موعده، كما بقي مُمسكاً دائماً بزمام الربط!