IMLebanon

الحريري يدعو الى العقلانية والإيجابية

 

لم تكن يد ممدودة الى الجهة الأخرى بإيجابية مثلى ولا هي تعبير عن منتهى الاصرار والرفض القاطع للتفريط بحاضر لبنان ومستقبله فحسب، بل الترجمة العملية الصادقة للهواجس العميقة التي تحفر في قلوب وخواطر اللبنانيين عندما يسكن القلق والخوف مضاجعهم، فيغصون من جرائه بمأكلهم ومشربهم، تجافيهم الطمأنينة وتسرق من شبابهم احلام الغد المشروعة. تلك كانت وقفة الرئيس سعد الحريري النبيلة منذ ايام خلت.

كانت وقفة تجاوز فيها الطوائف والمذاهب والعصبيات وكل أسباب ودواعي الأحقاد وصغائر تصفية الحسابات والانسياق وراء الغرائز والنوازع الفئوية الضيقة الافق وتلك الكيدية المعششة ابدا في صدورنا، كما طالما اعتدنا عليها نحن اللبنانيين منذ فجر الاستقلال وعلى طول امتداد تاريخنا الحديث. فالأنواء والرياح العاتية تهب علينا من كل جانب، تتهددنا وتنذرنا بشر مستطير كياناً ودولة وشعباً ومؤسسات: حاضراً وواقعاً ومرتجى ومستقبلاً.

كان من السهل الهين على الرئيس الحريري، ان يصغي لطبول الحرب، صيحات الدعوة للاقتتال الداخلي، والغرق في لجج الطروح القائمة السوداء، والاستسلام لمنطق الطائفة ولغة المذهب وعقلية الجهة وعصبيات المناطق وزواريب الفئوية الحمقاء. فلبنان بالإمكان تخريبه واشعال الحريق الشامل فيه في ساعات أو ايام أو شهور، فنهدم بالتالي وطناً لسنا نملك قطعاً على وجه الارض بديلاً سواه. وهذا هو بحق شعور ويقين غالبية اللبنانيين.

لقد جربنا في الماضي الحروب الداخلية من كبيرها إلى صغيرها، وقد خبرنا ويلاتها وتداعياتها ونتائجها الوخيمة المذلة فظننا خطأ وغباء وغفالة ان الآخر اكثر حرصاً منا على الوطن الصغير، فإذا بنا نجد ذوينا وجيراننا ومن نشاطرهم كل يوم الارض والسماء وطلوع الشمس هم اكثر وفاء من اي مدع دخيل مزعوم اياً كان.

ألم نجوب المهاجر والمنافي ومنابر الذل ومعازل المطارات والمرافئ ونحن ندفع باهظاً ثمن حرب الاخوة اللبنانيين؟ والذين قضوا، أهل حقاً ماتوا من اجل قضية أم كانوا ضحايا حرب عبثية ووقوداً لنيران الأطماع الخارجية؟

«تعالوا لنقف في ما بيننا على كلمة سواء!» بهذه الروح خاطب حزب الله الرئيس سعد الحريري في مقابلته المتلفزة الاسبوع الماضي، داعياً إياه إلى حوار صادق شفاف. ذلك ان مصير لبنان على المحك الآن. فأي مصير لبلد تجد؟. مجلس نيابي ممدّد له نتيجة سياسة التعطيل والفراغ والشلل، يدعى للمرة السادسة عشرة للانعقاد، عاجزاً تماماً عن انتخاب رئيس جديد للجمهورية.!!

لقد أرخى التمديد للبرلمان بظلاله على مكانة لبنان وصدقية مؤسساته في العالم بعد أزمة حكومية استدامت اشهراً طوال.. والآن يصبح لبنان بلا رئيس. وأن يستمر الحال على هذا المنوال، فهذا هو الاهتراء بعينه، بل هو تكريس متعمد فاضح بأن لبنان دولة فاشلة لا مكانة لها ولا احترام بين الامم. وهل بالإمكان ان يستقيم الحكم وتعمل المؤسسات وتقوم الإدارات بدورها في رعاية شؤون المواطنين في ظل غياب رأس السلطة التنفيذية وحامي الدستور؟

دعا الرئيس الحريري لانتخاب رئيس توافقي ليتم اخراج البلد من مأزقه الراهن، بخاصة عندما أعلن الدكتور سمير جعجع مرشح قوى 14 آذار قبوله الصريح بهذا الحل الأمثل. إلا ان حزب الله ما زال مصراً على الاتيان بالعماد ميشال عون رئيساً، وهو يعلم تماماً انه ليس رئيساً توافقياً قط. وبالتالي فان حزب الله ينوي المضي في الأزمة الى ما لا نهاية.

ان الحوار الجدي الصريح والشفاف يجب ان ينصب على هذه المسألة بالذات. فإن كان الرئيس امين الجميل ولا النائب بطرس حرب بدورهما لا يرضى بهما حزب الله فمن عساه يكون ذلك الرئيس التوافقي العتيد؟

ان الرئيس الحريري في مقترحه هذا للحوار وضع جانباً ثلاث نقاط لو اصر على تضمينها جدول أعمال الحوار للاقت في الحال عاصفة من الصد والرفض والانفعال من حزب الله، الا وهي سلاحه على ارض لبنان، انغماسه في الحرب السورية وتورط بعض اعضائه في اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري. وبالرغم من موقفه هذا، وفيه الكثير من التضحية بل محاولة انقاذية للوضع اللبناني المأزوم، فإن ردود الفعل الأولى من حزب الله لا تبعث على التفاؤل عندما اعلن احد نوابه حسن فضل الله «ان الحزب ثابت على موقفه حيال رؤيته ملف رئاسة الجمهورية». معنى كلامه هذا هو ان حزب الله ما زال متمسكاً بترشيحه العماد عون.

يميل جانب منا للاعتقاد ان دعوة الرئيس سعد الحريري حزب الله للحوار وتحديداً للاتفاق حول رئيس توافقي بقصد تخفيف حدة الاحتقان في البلاد، ولتسريع بعث الحيوية والحياة في الجسم اللبناني المصاب بالتعطيل والشلل، لم تكن شعبية ولا شعبوية. فقد سمعنا امتعاضاً ولمسنا تذمراً وتململاً بل اعتراضاً في صفوف 14 آذار نفسها، ومرد ردود الفعل هذه يكمن في الشعور العام السائد في فقدان اي بارقة امل أو جدوى من اي حوار جدي مجد مع حزب الله. ان تضحيات الرئيس الحريري لكبيرة وتعاليه على الجراح فيه الكثير من النبل والتسامي. ان دعوته بل صرخته هذه، هي مناشدة عقلانية لتحكيم المنطق وتغليب المصلحة العليا، لأنه يرى بأم العين ان الوطن باسره في خطر وأن المركب تعصف به الرياح الهوجاء، وهو يشارف على الغرق. فليعد اصحاب الحسابات الدقيقة حساباتهم، ولنلتفت الى امورنا الداخلية ولنقلع عن اجترار الأوهام.

ان لبنان لم يعد بوسعه الانتظار هكذا الى ما لا نهاية، فلا استئناف المفاوضات حول ملف ايران النووي المضروب موعده في تموز (يوليو)، ولا احتمال الاجهاز على داعش في العراق وسوريا، ولا تنحي بشار الاسد الماضي قدماً في حربه العبثية، ولا اي عامل آخر من هذه العوامل لقادر ان ينقذنا من المأزق الذي نتخبط فيه. فلنرمم وندعم بيتنا بأيدينا وبأنفسنا قبل سقوطه على الجميع، وذلك قبل فوات الأوان.