قد تكون الأزمة السياسية الخطيرة التي هزّت لبنان ناتجةً من النزاع الأميركي الداخلي العنيف، والتخبّط الى حدّ التناقض في القرار الأميركي الخارجي.
لم يتحرّك وليُّ العهد السعودي الامير محمد بن سلمان إلّا بعد تنسيق كامل مع البيت الأبيض مباشرة، وبعد الزيارة الرابعة لكبير مستشاري الرئيس الأميركي صهره جاريد كوشنر الى الشرق الأوسط منذ تولّي الرئيس دونالد ترامب مهمّاته الرئاسية، وحيث إنّ هذه الزيارة بقيت بعيدة من التداول الإعلامي، فيما استقرّ كوشنير والوفد المرافق في السعودية لأربعة ايام تخلّلتها زيارات سريعة لمصر والأردن وإسرائيل.
وبعد زهاء الأسبوعين من رحيل كوشنر، انفجرت أزمتا لبنان والاعتقالات داخل السعودية.
ولكن قبل ذلك كان التباعدُ يزداد بين البيت الأبيض ومسؤولي الإدارة الأميركية الكبار الذين عيّنهم ترامب نفسه. كانت قرارات البيت الأبيض تؤخَذ وفق رؤية ترامب الشخصية ومن دون الركون الى ملخّص الدراسات والتقارير التي كانت تُعدّها المؤسّسات الأميركية المختصّة التي يستند إليها مسؤولو الإدارة الأميركية الكبار لبناء قراراتهم التي كان لا يأخذ ترامب بمعظمها.
أحد هذه القرارات، كان حول تجديد الاتفاق النووي المعقود مع إيران، والذي يشكّل للولايات المتحدة الأميركية مصلحة حيويّة حسب مختلف المسؤولين الأميركيين، وعاد ترامب واستجاب نصفَ استجابة بإحالة الملف الى الكونغرس.
هذا التشدّد هنا، ولو شكلاً، قابلته خسارات في الشرق الأوسط وأماكن أخرى في العالم.
وبدلاً من أن تتلقّى واشنطن مساعدةً دولية في أزمتها مع كوريا الشمالية، وجدت نفسها وحيدةً وعاجزةً عن ابتكار الحلول، خصوصاً العسكرية منها. فبعد كل تهديد عسكري يُطلقه البيت الأبيض، كان وزير الدفاع جيمس ماتيس يُصحّح الموقف من خلال التمسّك بالحلّ السياسي.
وليس بالأمر العادي أن يباشر الجيش الأميركي في نشر شبكة دفاعات صاروخية على طول الساحل الغربي للبلاد بعد التجربة الصاروخية الأخيرة لكوريا الشمالية والتي أثبتت القدرة على تهديد العمق الأميركي. ما من شك في أنّ الولايات المتحدة الأميركية تجد نفسَها للمرة الاولى منذ زمن طويل في موقع دفاعي.
وفي الوقت عينه، كانت واشنطن تخسر النقاط في الشرق الأوسط، وتسجّل سياستُها تراجعاً مخلّفةً فراغاً تعمل موسكو على ملئه، فيما هذا الملف أوكله البيت الأبيض الى كوشنر، وأبعد عنه وزارة الخارجية بكلّ مؤسساتها. لم تكن المسألةُ فقط إهانةً داخلية كبيرة لوزير الخارجية ريكس تيلرسون بل أيضاً اجتراح سياسة تفتقد الى تقارير ودراسات الخبراء والدوائر المتخصّصة والنظرة الاستراتيجية التي تحمي المصالح الأميركية الحيويّة.
وهو ما دفع بروسيا الى الإمساك بزمام المبادرة مستغلّةً الفراغ الديبلوماسي لواشنطن، فأقامت علاقات قوية مع السعودية ومصر، وهما أقرب حليفين للولايات المتحدة في الشرق الأوسط. وكان ملفتاً أن تتّفق روسيا مع مصر على فتح الأجواء بينهما لناحية الطائرات العسكرية، ما يعني توسيع نفوذ روسيا في منطقة تعمد لتركيز أقدامها فيها، في وقت يشتدّ النزاعُ حول المرجعية الدولية التي ستتولّى رعاية ولادة التسوية السياسية في سوريا.
نزاعٌ ما بين جنيف ورعاية الأمم المتحدة ومن خلفها الولايات المتحدة والعالم الغربي، وبين سوتشي والرعاية المباشرة لروسيا بالشراكة المباشرة مع إيران وتركيا صاحبتي النفوذ الأقوى على الأرض، في وقت استمرّت إيران في توجيه الرسائل المزعجة لواشنطن من خلال صواريخ الحوثيّين الى الداخل السعودي.
لكنّ ترامب الذي نجح مع صهره في سحب أموال ضخمة من السعودية والبحرين أدّت الى تحريك العجلة الاقتصادية الأميركية بقوة، أصبحا قريبَين جدّاً من السقوط في فخّ الإدانة والاتّهام.
فأن يعترف المستشار السابق للامن القومي مايكل فلين أنّه كذب في شأن التخابر مع روسيا ومكالمته السفير الروسي، فهذا يعني أنّ المحقّق الأميركي اصبح على باب مكتب ترامب.
ـ أولاً: لماذا الكذب في مسألة حسّاسة، وهو ما يعني أنّ أسراراً مزعجة يخفيها تواصلُ ترامب مع الروس.
ـ ثانياً: من المفترض أن يتلقّى فلين الأمر حسب التسلسل الإداري، وبالتالي من أحد من اثنين، إمّا كوشنر كونه كبير مستشاري الرئيس، أو الرئيس نفسه والذي كان منتخَباً يومها.
يعني في اختصار، الحبلُ أضحى قريباً جداً من عنقَيهما، ما دفع بترامب الى الطلب من صهره ترك واشنطن مع زوجته والانتقال الى نيويورك، أي الانكفاء عن مسؤولياته في هذه المرحلة.
هذا الواقع عزّز مكانة خصوم كوشنر وسياسة البيت الأبيض داخل الإدارة الأميركية.
وخلال الازمة السياسية الحادّة التي ضربت لبنان، ظهرت بوادرُ في هذا الاطار، فالتفاهم الذي كان قائماً بين البيت الأبيض ووليّ العهد السعودي حول لبنان اندرج تحت عنوان الضغط على «حزب الله» لتعديل حجمه الإقليمي بعدما أصبح كبيراً جدّاً.
هذا التوجّهُ كان مرسوماً على مستوى البيت الابيض وبقية الإدارات الأميركية في إطار إدخال إيران في الشرق الأوسط الجديد الجاري تشكيلُه وفق حجم معقول، والتّمهيد للفصل الكامل بينها وبين إسرائيل لمساعدة الأخيرة على الدخول في تسوية سلميّة مع الفلسطينيين.
وتحت هذا العنوان، انطلق وليّ العهد السعودي بهجومه في اتّجاه الحكومة اللبنانية من خلال رئيسها سعد الحريري، وبالتالي نسف التسوية التوافقية التي نشأت مع وصول العماد ميشال عون الى قصر بعبدا.
وقصدت السعودية في ذلك تحصيل مكاسب عدة، منها في اليمن حيث الكلفة المرتفعة، ومنها في الداخل اللبناني لناحية استعادة السعودية مواقعها ونفوذها والتعويض عن خسائرها في سوريا والعراق. لكنّ الأسلوب السعودي جاء عنيفاً وخالياً من الحنكة الديبلوماسية، ما هدَّد الاستقرار اللبناني الداخلي، في حين أنّ المؤسسات الأميركية كانت تردّد في استمرار أنّ الضغط الذي سيستهدف «حزب الله» محكوم بسقف محدَّد لا يمكن تجاوزه لكي لا تنفجر الامور، وهذا خطّ أحمر.
ولذلك مثلاً، وسّع الجيش الاميركي إطارَ مساعداته للجيش اللبناني مع التّشديد لمنحه الدعم الكامل في التصدّي لأيّ طرف يعمل على خربطة الاستقرار.
وخلال الأيام الأولى للأزمة، بدت الأمور غامضة، وحين حاول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون التدخّل جاءت زيارته الأولى فاشلة وسيّئة.
ولكن ومع تعثّر الامور، تحرّكت المؤسّسات الأميركية على أساس أنّ الاستقرار اللبناني بات معرَّضاً للانهيار، ووجّهت وزارة الخارجية رسائلها القوية، وحتى وزارة الدفاع تحرّكت مجدِّدة الدعم للجيش اللبناني في مقابل انكفاء البيت الأبيض.
انتقم تيلرسون من تغييبه الكامل عن ملفّ التسوية الإسرائيلية – الفلسطينية وملفات الشرق الأوسط الكبيرة، مستغلّاً الخطأ السعودي في التنفيذ.
خرج الحريري من السعودية وأعلن تجميدَ استقالته متسلّحاً بتفاهم كامل مع باريس، لكنّ الأزمة لم تنتهِ كلياً. وبخلاف الانطباع السائد، فإنّ الحريري ما زال يتواصل هاتفياً ومباشرة مع القيادة السعودية، وفيما هو يريد إعادة إحياء الحكومة مع عملية تجميل بسيطة للتسوية، كان الكلامُ السعودي من أنّ المملكة تُصرّ على خطوات ملموسة لا تعابير إنشائية، وأرفقت القيادة السعودية مطلبها للحريري بإشارتين كبيرتين: الأولى على لسان وليّ العهد الذي وصف الحريري بالمسلم السنّي الذي لا يمكنه تغطية «حزب الله»، وهو ما يعني وضع انتمائه لطائفته على المحك، والثاني كلام وزير الخارجية عادل الجبير حول المصارف اللبنانية والذي يُمهّد لاحقاً لإعلان تجميد كل الحوالات والتعامل المصرفي بين لبنان والسعودية والإمارات والبحرين والكويت.
وبدا أنّ الرئيس الفرنسي والذي طلب الحريري مساعدته لتليين الموقف السعودي، لم ينجح كثيراً. ووضع الوزير جبران باسيل ومدير مكتب سعد الحريري نادر الحريري الورقة الجديدة للتسوية، وتمّ الاتفاق على أن ينعقد مجلس الوزراء الثلثاء من دون جدول اعمال، على أن يُخصَّص فقط لإقرار الورقة، مع دعوة الوزراء الذين سيعارضونها الى الاستقالة من الحكومة اذا كانت البنود تتعارض ورؤيتهم، لأنها ستشكل برنامج عمل الحكومة.
لكنّ الحريري الذي كان ولا يزال يعمل على تدوير زوايا الموقف السعودي فوجئ بتسريب خبر اجتماع مجلس الوزراء، وانزعج من ذلك وقرّر عدم عقد الجلسة الثلثاء، لإدراكه أنّ التصادم مع السعودية سيكون مكلفاً.
وهو عوّل على تطورات اليمن واجتماعات لندن واستدارة علي عبدالله صالح، ورأى إمكانية استغلال الحدث لمصلحة تخفيف التوتر السعودي. لكنّ إيران ذهبت أبعد مع تنفيذ تهديدها السابق وطاول الصاروخ البالستي للمرة الأولى أبو ظبي عاصمة دولة الإمارات العربية المتحدة.
تعقيدات الخارج تزداد، وسط تراجع سطوة الرئيس الأميركي داخلياً وعلى مستوى السياسة الخارجية، رغم أنه لا يزال رئيس الولايات المتحدة الأميركية، والقادر على توجيه سياسة بلاده، والأهمّ أنه مستعد لمقاومة معارضيه والداعين الى رحيله حتى ابعد الحدود، وبخلاف السياسة التي اتّبعها الرئيس السابق ريتشارد نيسكون بالانصياع لخصومه والاقتناع في النهاية بقرار الاستقالة وخروجه من البيت الأبيض من دون مشكلات كبيرة.