لا أظنّ أنّ رفيق الحريري لم يكن واعياً لخطورة المهمة التي وصلت إليه ونذر نفسه لها، منذ اليوم الأول الذي حاول فيه وضع حد لمسلسل الانتحار الذي ضرب لبنان منذ بداية الحرب الأهلية سنة 1975.
هو كان يعلم خبث آلة الموت التي لا تجد لها مكاناً في الوجود إلّا من خلال استمرار الحروب، وبالتالي فأدواتها تصبح تافهة مركونة في قعر الأقبية بمجرد زوال أسباب تربّعها على قمة المجتمع وواجهة الشهرة والأحداث. لذلك، فإنّ رفيق الحريري كان يعرف حق المعرفة بأنه سيتواجه مع هذه الأدوات التي لا وجود لها من دون حرب ما، يتحولون فيها من بشر عاديين أو أدنى، إلى أبطال وقادة ومنتصرين، حتى ولو على جثث آلاف الشهداء، وعلى ركام المدن والأوطان.
ومواجهة رفيق الحريري كانت أيضاً مع الزبانية التي لا وجود لها إلّا من خلال التنصّت والنميمة والدسائس، هي حثالة القوم الذين يتحولون في غفلة من الزمن أمناء على أمن البشر لمجرد أنهم قادرون على إدارة المؤامرات وتدبير التهم وفبركة الجرائم ليتهموا بها مَن تسوّل لهم أنفسهم إزعاج السلطان القاتل الظالم والمستكبر، وليّ نعمة الموشوشين.
ورغم ذلك فقد وجد رفيق الحريري نفسه في موقع المواجهة مع كل هؤلاء، وكان يعلم مدى خطورة أعدائه، لكنه ظنّ أنه قادر على الصمود بمراكمة الإيجابيات وإقناع حتى من يواجههم بأنّ فوائد السلم والاستقرار أعظم لهم من خيارات الاستمرار في سياسة الإنتحار في سبيل الإنتصار. كان يحاول أن يقول لهم انّ صنع الفرح والبحبوحة أعظم من صنع الموت في سبيل جَني لحظات الهتافات بحياة القائد، ينتشي هو بها، وينتشي بها حضور المهرجانات الخطابية التي تتحول هي نفسها إلى حلقات إدمان.
لم يكن رفيق الحريري يسعى إلى منافسة المنتصرين على مواقعهم، فجلّ ما كان يريده هو أن يرحموا الناس، وإن استمروا في التربّع على قمة مجدهم. وأن يتحوّلوا قادة للسلام والبناء كما كانوا عظماء في الحرب. لكنّ عقم هؤلاء وقصورهم عن منطق البناء جعلهم يستكبرون ويُمعنون في استتباع الناس لفلسفة الموت واصفين ضحاياهم بالشهداء.
لم يخطر على بال أيّ من هؤلاء أنّ الوصول إلى الإدانة في المحكمة سيأتي يوم ليصبح أمراً واقعاً. ظنّوا أنّ القضية ستمر كما مرّ غيرها ببساطة، بتضييع المسؤولية واتهام الأشباح و»المتآمرين على العروبة وأعداء الوطن».
ظنوا أنّ الإستمرار في الإرهاب سيمنع مَن يطالب بالعدالة من الإصرار على طلبه. ظنّوا أنّ إدخال البلاد والعباد في الحروب بمختلف الإتجاهات سيضيع معالم الجريمة.
لكن كل ذلك اليوم أصبح وراءنا، ولا نفع للكلام الفارغ عن اللعب بالنار، ولا مكان لتافه آخر يحاول تسخيف أو تهفيت منطق العدالة الدولية لكونها طويلة الأمد، ونحن نعرف أنّ العادة في العدالة في عالمنا الثالث تسجّل عادة في خانة العدو حتى ولو كانت خيوط الجريمة تشير إلى متسلّط وطني ينفذ ما يفيد العدو.
المتهمون الذين ستدينهم المحكمة باغتيال رفيق الحريري لا يزالون يصفون أنفسهم بالأبطال ووصفهم رفاقهم بالقديسين، وهم فارّون من وجه العدالة، متخصّصون بفنون القتل والغدر والإغتيالات، وقائدهم يصفونه بالبطل الخارق، وهو في الواقع مثل «طيور الجيف» ينتظر اهتراء البلد لينقضّ عليه ويبتلعه.
الحديث عن اللعب بنار الحرب الأهلية صحيح وأمر واقع نحيا معه منذ الرابع عشر من شباط 2005، ولكن من لعب بالنار هو من خَطّط وحرّض ونفذ جريمة اغتيال رفيق الحريري، وهو من أدخَل البلد في حروب متتالية للهرب من مسؤولية اغتياله، وهو من أشعَل الفتنة المذهبية في العراق وسوريا واليمن ولبنان، وهو من أراد اعتبار اغتيال رفيق الحريري قضية فردية تخصّ أفراد عائلته فحسب.
إنّ المأتم الدائم الذي نعيشه اليوم، وآخر فصوله هو مأساة بيروت الكارثية، هو بالضبط نتيجة لإحباط مشروع رفيق الحريري لبناء دولة، وهو بالذات ما تَسبّب باغتياله على يد أعداء الدولة المستقلة في لبنان.
يذهب التافهون اليوم وأمس إلى الحديث عن كلفة المحكمة، وهي باهظة بالتأكيد، ولكن هل فَكّر هؤلاء، من أصحاب النيات الحسنة، كم هي تكلفة ضياع العدالة واستمرار المجرمين في تنفيذ عمليات القتل والتفجير واغتصاب حق اللبنانيين في الأمان من حروب لا ناقة لهم فيها ولا جمل؟
أما أصحاب النيات السيئة، ومنهم الذي ما زال يستهجن تسمية مطار أو مستشفى باسم رفيق الحريري، فلا دواء يشفيهم من الحقد السخيف التافه.
نطق الحكم اليوم يعني عودة المسألة إلى مجلس الأمن ليقرر طريقة تنفيذه، وقد يلقى فيتو ما، وقد لا تصل الأمور إلى التنفيذ، فسجن تافهين أربعة لا يغيّر في الأمر شيئاً، لكن تعرية منظومة القَتَلة المتسلسلين هي الأهم من خلال المحكمة.
اليوم لن يردّ الحكم الحياة لرفيق الحريري، ولا أظن أنّ الأمر يهمّه لا من قريب ولا من بعيد، وليس الأمر يشفي جرح ابن رفيق الحريري بفقدان والده، ولم يكن في الأساس قضية عائلية، بل القضية هي قضية وطن استباحَته آلة القتل والدمار والدسائس والفتن في سبيل قائد ملهم تحرسه مجموعة من القتلة والسفاحين.