IMLebanon

محاكمة عهد الحريري أم محاكمة قاتليه؟

تشهد المحكمة الدولية متغيراً لا علاقة له بعملية اغتيال الرئيس رفيق الحريري. فالتسجيلات الصوتية والشهادات تعيد إحياء ذاكرة من عايش المرحلة، وهذا لا يصبّ في مصلحة من تفتش المحكمة عمن اغتاله

لم يأت الزلزال الذي كان يفترض أن يحدث مع بدء أعمال المحكمة الدولية الخاصة بلبنان بالحجم الذي كان ينتظره المدافعون عن إنشاء المحكمة والذين حاربوا من أجل تشكيلها. فالزلزال الذي ضرب العراق وسوريا واليمن، وجنوح بلدان المنطقة نحو متغيرات دراماتيكية، أخذ كل شيء في طريقه، ولم تعد جلسات المحكمة العلنية سوى نقطة من بحر الشرق الأوسط الهائج.

لكن مع استمرار أعمال المحكمة، يرتسم منحى جديد، يكمن في تسليط الضوء على مرحلة حساسة من تاريخ لبنان، من خلال ما يرد على لسان الحريري نفسه، ومن خلال شهادات الشهود. فبعد عشرة أعوام على الاغتيال، تنبش المحكمة الدفاتر السود لمرحلة، عمل تيار المستقبل وقوى 14 آذار بعد عام 2005 على تجميلها وطيّها نهائياً، وكأنها لم تكن. ومنذ أن بدأت الشهادات العلنية للمقربين من الحريري، وأبرزهم الرئيس فؤاد السنيورة، وصولاً الى شهادة النائب وليد جنبلاط، وبث التسجيلات الصوتية، عاد شبح تلك المرحلة مجدداً، وانتقل الحدث من عملية الاغتيال نفسها الى مكان آخر… الى ما يرد في الحوارات المسجلة التي تبثها المحكمة والكلام الذي قيل بين الحريري وشخصيات سورية. وخطورة ما يحصل اليوم في لاهاي، ليس في الشق المتعلق بالتفتيش عن المخططين لاغتيال الحريري والمنفذين، بل في إعادة إحياء مفاصل دقيقة لا تصب في مصلحة عهد الحريري منذ أن تولى رئاسة الحكومة. كذلك تطرح أسئلة بديهية، أبعد من هدف التسجيلات الأساسي والغاية منها: هل توجد تسجيلات مماثلة مع شخصيات غير سورية، لبنانية أو عربية أو غربية، تبرز في الوقت المناسب؟ وكيف تمت تلك التسجيلات؟ وهل جرت بعلم محاوري الحريري؟ واستطراداً، هل هناك اليوم من يأتمن على نفسه وكلامه في الاجتماعات السياسية بعد الكشف عن هذه التسجيلات؟

كيف تمّت

التسجيلات وهل

جرت بعلم محاوري الحريري؟

تذهب المحاكمة إذاً في اتجاه لا يقترب من الحقائق الأمنية، بقدر ما يعيد تركيب مرحلة سياسية حساسة من تاريخ لبنان الحديث، من زاوية الشخصيات التي تدلي بشهادتها. يقول أحد السياسيين الذين رافقوا مرحلة الحريري الأب إن ما يجري اليوم هو تركيب المرحلة السابقة بين 1990 و2005، وقراءة تاريخها وفق أحداث اليوم والمتغيرات التي لحقت بالمنطقة، ووفق نظرة الشهود الآنية وتموضعهم الجديد وتركيبتهم السياسية الحالية. بدليل شهادة جنبلاط نفسها التي صبت ضد النظام السوري ولم تقترب من حزب الله، في ضوء ما يربط جنبلاط بالحزب حالياً. وفي ضوء دور جنبلاط المحوري بعد عام 2005 تحديداً، وسعيه مع الرئيس نبيه بري الى تركيب التحالف الرباعي مستبعداً القوى المسيحية التي وقفت في وجه النظام السوري. وكذلك، فإن ما يقال في المحكمة اليوم عبارة عن تحليلات وليس وقائع يمكن تصريفها في عملية تحليل معطيات الاغتيال علمياً. والشهادات التي تعطى إنما تنطلق من المتغير الكبير الذي يعيشه لبنان وسوريا، لتعيد رسم مرحلة عهد الحريري في ظل الوصاية السورية على غير حقيقتها.

فما حصل في تلك المرحلة يعكسه الحريري نفسه بطريقة أو بأخرى من خلال التسجيلات، وهي للمفارقة سيف ذو حدين. فمنذ بث هذه التسجيلات، صارت هي محور النقاشات السياسية، وتوالت الانتقادات لشهادات أدت الى إسقاط الهالة عن شخص الحريري ودوره إقليمياً ودولياً وداخلياً، وعن الوعي المتأخر ضد نظام الرئيس بشار الأسد. وهذا الأمر لا يصب في صالح إرث الحريري وتاريخه الذي يفترض أن يكون تاريخ رجل دولة، ما يزعزع صورته وهو يحاور المسؤولين السوريين، من خلال تفاصيل لا تخدم سوى إعادة إظهاره مجدداً كما كانت عليه حاله أمام معارضيه السابقين، قبل أن يطوي الاغتيال صفحة الخلافات ويوحّد الصفوف في وجه النظام السوري.

تشير إحدى الشخصيات المسيحية الى التسجيلات وإلى ما يقوله الحريري فيها بوصفها مؤشراً حساساً لأنها تعيد الى الأذهان الصراع الحاد الذي عاشته المعارضة آنذاك، وقرنة شهوان تحديداً، طوال خمسة أعوام مع الحريري. ومن يستذكر المرحلة يعرف كيف كان الحريري خصماً عنيداً للقرنة ولبكركي حينها. لكن هذه الشخصية تشير في قراءتها للتسجيلات الصوتية إلى تمسك الحريري تكراراً بالطائف كمرتكز أساسي في كلامه وهو أمر يُشهد له به.

في المقابل، ثمة من ينتقد استشهاد الحريري الدائم بالطائف، فيما يحرص على رفض القرار 1559 الذي نص على انسحاب الجيش السوري من لبنان، وهو الأمر الذي يطرح علامات استفهام حول النقطة الأساسية المتعلقة بالتسجيلات. فمن يؤكد أن ما ينقله الحريري في هذه الحوارات عن سياسيين، ليس مجتزأ، وأن الكلام الذي ينقله عنهم يأتي في الإطار الصحيح لكلامهم، وما هي خلفيته، وهل ورد من ضمن نقاش عام أم جاء على شكل رسائل مباشرة؟

فتحت التسجلات الصوتية باباً لن يغلق بسهولة. فخطورة هذا الأمر وحساسيته أنه سيفتح النقاش مجدداً في الداخل اللبناني على كثير من القضايا والملفات النائمة، بعيداً عن عملية الاغتيال. فما يكتب في لاهاي ليس تاريخ لبنان، بل وجهة نظر لفريق سياسي عن مرحلة معينة. وهناك أفرقاء آخرون لهم أيضاً وجهة نظرهم عن تلك المرحلة.