Site icon IMLebanon

الحريري «يفلش» أوراق الأزمة للسعوديّين

 

 

المثير هو أنّ «حزب الله» يتفرَّج على الرحلات بين بيروت والرياض ذهاباً وإياباً، ولا يعلِّق، لا سلباً ولا إيجاباً. ويقول القريبون منه: «الحزب» له كامل الثقة في أنّ شيئاً لن يعرِّض نفوذَه للخطر: لا الحريري مستعدٌّ للانقلاب، ولا توازنات القوى الداخلية تسمح لسواه بانقلاب. والبقية تفاصيل…

المطّلعون يقولون: «هناك حرارة في لقاءات الرياض، والابتسامات و«السلفي». لكن ما قاله الرئيس سعد الحريري لملكها ووليّ العهد في زيارته الأخيرة لا يختلف عمّا قاله لهما في تشرين الثاني الفائت».

ففي الأشهر الأربعة الأخيرة، لم يطرأ جديد على الواقع السياسي في لبنان، لا «النأي بالنفس» ولا ملف السلاح ولا سواهما. وعلى العكس، تمّ تكريس النهج السائد. وعملاً بمقولة آينشتاين، «لا يمكن انتظار نتائج مختلفة في ظلّ معطياتٍ لم تتغيَّر».

في الزيارة التشرينية «الشهيرة» للسعودية، قال الحريري إنّ «الواقعية» تفرض عليه السير مرحَلياً في نهج التسوية التي يريدها «حزب الله» ويديرها، لأنه لا يمتلك خيارات حقيقية لمواجهتها. وفي أيّ حال، لا داعي للقلق، لأنّ الخصوصية اللبنانية تفرض على «حزب الله» سقفاً من النفوذ لا يمكن أن يتجاوزه، مهما تعاظمت قوته.

في المراحل الأولى من «أزمة تشرين»، لم يحظَ الحريري بالتفهّم، ولكن، بعد تدخّل الوسطاء، بات السعوديون أكثر اقتناعاً بأنّ «واقعية» الحريري مبرَّرة، ولكن جزئياً ومرحلياً، في انتظار معطيات كبرى قد تضعف النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط كله، من العراق إلى سوريا فلبنان.

ولذلك، خرج الحريري من السعودية بنوع من التسوية التي تقضي بأن يحدّ من تنازلاته في خلال ممارسة الحكم، كما في الانتخابات النيابية المقبلة، ثم في عملية تأليف الحكومة، بحيث لا يقع لبنان تماماً في قبضة «الحزب».

التزم الحريري هذا التفاهم بخطوطه العريضة منذ اللحظة التي عاد فيها إلى لبنان: أصرّ على التشاور حول «النأي بالنفس»، ولم يتّخذ أيَّ خطوة تُقرّبه سياسياً من «حزب الله». ثم أعلن في «البيال» أنه سيخوض الانتخابات في مواجهة «الحزب». وهذا ما أراح السعوديين.

والمطّلعون على مجريات أزمة الخريف كانوا يعرفون أن لا قطيعة حقيقية بين الحريري والرياض، بل «مهلة» سعودية له لكي يُثبت أنه لن يترك البلد لقمةً سائغة لـ«حزب الله». ولم يفاجأ هؤلاء بزيارة الموفد الملكي السعودي نزار العلولا لبيروت.

ولكن، عملياً، وعلى مدى 4 أشهر مضت، لم يتغيَّر شيء في مفهوم «النأي بالنفس». وأما المواجهة الفعلية مع «الحزب» في الانتخابات فتبقى مسألةً افتراضية، لأنّ دونها صعوبات حقيقية في ظلّ القانون القائم والتوازنات السياسية وتوزيع القوى في الدوائر.

يطلب السعوديون من الحريري أن يحفظ مواقع الرموز القريبة من نهجهم السياسي في داخل «المستقبل»، وفي مقدّمها الرئيس فؤاد السنيورة، بحيث يكون لهم دور في المجلس المقبل. ومن هنا تفكير الحريري بانتقال السنيورة إلى بيروت الثانية ما دام مشكوكاً جداً في قدرته على الفوز مع النائبة بهية الحريري في صيدا. كما يبدو صعباً ضمان مقعد لشيعي من «المستقبل» في العاصمة، لأنّ حركة «أمل» و»حزب الله» سيخوضان المعركة هناك.

ويريد السعوديون من الحريري تنسيق معركته الانتخابية مع قوى 14 آذار في الدرجة الأولى («القوات» والكتائب والمستقلون) ثمّ القوى المحلّية في المناطق، ثم النائب وليد جنبلاط. وأما التعاون مع «التيار الوطني الحر» فيريدونه مضبوطاً جداً وحيث تقتضي مصلحة «المستقبل» و14 آذار ذلك.

لكنّ الخبراء يتحدثون عن مأزق حقيقي في محاولة تركيب لوائح حصرية بين الـ14 آذاريّين تستطيع ضمان الفوز. وسبب ذلك تشابك المصالح بين هؤلاء من جهة وبينهم وبين «التيار الوطني الحرّ» وآخرين. فهناك احتمالُ نشوء تحالفات مصلحية «على القطعة» بين «التيار» والحريري، وبين «التيار» و«القوات».

وهذا الجوّ من «الغرام والانتقام» بين هذه القوى الثلاث سيكون له دوره في تحديد الخريطة السياسية في المجلس النيابي وفي ملف تأليف الحكومة المقبلة. وحاول الحريري أن يشرح للسعوديين أنّ اتّخاذَ مواقف سلبية من «التيار» في الانتخابات يمكن أن تكون لها تداعيات على العلاقة مع الرئيس ميشال عون بعد الانتخابات وقد تهدّد التفاهم على تولّيه رئاسة الحكومة المقبلة.

أبلغ الحريري تفاصيل هذه الشروحات التقنية المعقدة إلى الموفد السعودي في بيروت. ثم حملها إلى الرياض، بما فيها من مآزق، حيث أطلع المسؤولين هناك عليها، وطلب منهم إبداء الرأي والمشاركة في تقديم الاقتراحات التي يرونها مناسبة لضمان الهدف الذي يريدونه. ففي الانتخابات، الأرقام والوقائع هي التي تقرِّر.

يضيف المطلعون: في خلال أزمة «الاستقالة»، في تشرين الثاني، خاطب الحريري السعوديين: أنا معكم في الهدف الذي تريدون تحقيقه، بالنسبة إلى «حزب الله»، وقد حاولنا كثيراً ونحاول، لكنّ نفوذ «الحزب» أكبر من قدرتنا على الساحة اللبنانية الصغيرة. أرشِدونا إلى السبيل.

واليوم، يبدو الحريري أمام المنطق نفسه في الرياض وهو يقول للسعوديّين: «صحيح، علينا أن نعطّل رغبة «حزب الله» في الاستحصال على الغالبية النيابية، ولكن كيف يكون ذلك وسط كل التعقيدات السياسية والطائفية والمذهبية وقانون الانتخاب المعتمَد؟ وتحدث عن فوائد العلاقة الجيدة مع رئيس الجمهورية، ما قد يؤدّي إلى إقامة علاقات جيدة بينه وبين السعودية.

وعلى الأرجح، هذه المرة، سيعود الحريري من السعودية أكثر ارتياحاً، لأنه «فَلش» كل أوراق الأزمة الانتخابية على الطاولة أمام السعوديين، وسألهم رأيهم في المخارج.

وأما «الخطة ب»، أي العمل لتغيير التحالفات بين القوى التي ستفوز في الانتخابات النيابية، ولا سيما منها «التيار الوطني الحرّ» وجنبلاط، ما يؤدّي إلى إضعاف «الحزب» في المجلس النيابي المقبل، فإنها تستدعي إيجادَ الظروف والمبرّرات والأثمان اللازمة لتصطفّ هذه القوى خارج دائرة «حزب الله». وهذا أمر غير مضمون على الإطلاق.

في أيّ حال، ستبقى الحرارة على خط بيروت – الرياض طوال الأشهر المقبلة. ويتردّد أنّ وفداً سعودياً يقوده وزير الخارجية عادل الجبير، ربما يزور بيروت قريباً، يرافقه العلولا. وهذه الجولات المكوكية ستضع الملف الانتخابي على النار.

لكنّ اللافت هو أنّ خصوم السعودية في لبنان يتابعون هذه المكوكية ولا يُظهرون اعتراضاً، لاطمئنانهم إلى أنّ كلَّ شيء تحت السيطرة. ولا بأس في أن تتحسّن العلاقة بالسعودية عشيّة مؤتمرات الدعم، ما دام تأثيرُها في الانتخابات لن يؤدّي إلى إحداث انقلاب.

يومَ غادر الحريري ربوعَ الرياض، في تشرين، متأبّطاً ذراع صديقه الفرنسي إيمانويل ماكرون، ربما كان يقول في داخله للسعودية ما قالته عمّته في آذار 2005 عن سوريا: «لا أقول وداعاً، بل إلى اللقاء»! ولم يَطُل موعدُ اللقاء كثيراً.

يدرك الحريري أنّ السعودية ستبقى المرجعية التي لا بدّ منها للسُنّة في لبنان، وأنّ موقع رئاسة الحكومة في لبنان لا يصل إليه أحد إذا لم يحظَ ببركة السعودية، وأنّ أيَّ طلاق (مفترض) بين السعودية والحالة الحريرية مُكلف جداً، لأنّ الزواج معقودٌ بينهما من يوم الولادة، بل مربوط بها. وخصوم السعودية يدركون ذلك أيضاً ويقتنعون به، ما دام تحت السقف.