لن تنتهي “الحريرية” باستنكاف الرئيس سعد الحريري عن الترشح للانتخابات أو بامتناع “تيار المستقبل” عن خوضها كطرف يمثل أكثرية الطائفة السنية في لبنان دوره مطلوب للتوازن ومنع جر البلاد الى محور إيران.
سيشهد المسرح السياسي خللاً أساسياً وستتنازع “جمهور” الحريرية شخصيات وقوى تستحق تمثيله، أو تتحين الفرصة للهيمنة عليه، أو النجاح على حساب تراجعه. لكنْ، لن تذهب جفاءً البذرة التي زرعها رفيق الحريري بمساره الاستثنائي ووجوهه المتدرجة وشهادته المدَوية، وهي باقية حتماً وراسخة في ضمير طائفته وأكثرية اللبنانيين.
يشكل انكفاء سعد الحريري عن المشهد ضربة موجعة للتوجه السيادي الذي شكَّل 14 آذار وكان أحد أركانه، في وقت لا يزال التحدي الأساسي أمام اللبنانيين هو استعادة السيادة كشرط شارط لحل الأزمة الوطنية، ولا تزال روح ذاك اليوم التاريخي مطلوبة لبناء دولة المؤسسات. وهي هذه الروح التي انتهى الى معانقتها الرئيس الشهيد حين أدرك أن لا مجال لمزاوجة النمو مع الوصاية، أو تحقيق الازدهار وجلب الاستثمار في ظل تغييب القرار الوطني المستقل وحكم القانون.
للحريرية السياسية ما لها وما عليها. فهي جزء من “المنظومة” التي حكمت لبنان ثلاثين عاماً، وتُدان حتماً في شق المحاصصة وترك الحبل على غاربه لنزعة الفساد والتربّح الفاحش على حساب الاقتصاد والناس. لكنْ، يكفي الحريرية أنها أرسَت نهج الاعتدال في الطائفة السنية وجعلته مساحة لقاء بين كل الطوائف وعنواناً للعيش المشترك في لبنان. وتثبيتُ فكرة “الوسطية” مهمة جليلة وخطيرة تطوَّع لها رفيق الحريري في زمن “الصحوة” المتطرفة وانتشار فكر أصولي تدميري في المجتمعات السنية والشيعية على السواء.
حتى إشعار آخر سيبقى السؤال مطروحاً عمَّن الأجدر بحمل مشعل “الحريرية”، لكنها ستستمر كونها أكبر ممَّن ورثوها ومن الذين سيتقاسمون تَركتها ولو ادعوا بأنهم يسيرون على خطاها، خصوصاً أنها ليست ايديولوجيا بل سلَّة قناعات هَجَست بتحسين شروط العيش وصالَحَت طائفة كاملة مع قيم الغرب والحداثة في زمن الدعوات المتخلفة الى “الفسطاطين”، وضاعَفَت المُشترَكات بين اللبنانيين المؤمنين بالعلم وثقافة الحياة.
خسرت “الحريرية” كثيراً وأكثر من مرة في الممارسة السياسية، سواء في تحالفاتها أم في مباشرتها المسؤوليات الحكومية والتنفيذية. وهي لا تستطيع الدفاع عن نفسها حين تُفتح ملفات من رَعَتهم في مراكز القرار بدءاً من حاكم مصرف لبنان و”جماعة” مجلس الانماء والإعمار والهيئة العليا للإغاثة، وصولاً الى الإثراء غير المشروع لوزراء ونواب و”رجال أعمال” كثيرين ركبوا موجة الحريرية وكانوا من أعمدتها، ويمكن تلخيصهم جميعاً بصفقة البواخر المشينة بين “الأزرق” و”البرتقالي”.
رغم ذلك، تستطيع “الحريرية” التخلص من أدرانها والنهوض مجدداً لأنها بنيت أساساً على وقائع وحاجات. أولها، إنهاء النزاع الأهلي حين أثمرت “اتفاق الطائف” الذي تحول دستوراً ولا يزال المرجع الحقيقي لتوافق اللبنانيين مهما تطورت الخلافات والنزعات الى الهيمنة أو الفراق. وثانيها، الازدهار الذي تعرض للنكسات والنكبات والاغتيالات لكنه سيبقى حاجة دائمة للأفراد والجماعات. وأهمّها، أن “الاعتدال الوطني” ليس حاجة لبنانية فحسب بل إقليمية وأممية وإنسانية لتأمين مصالح لبنان مع الامتداد العربي المزدهر، وتمتين علاقاته مع المجتمع الدولي المتقدم، وإعلاء قيمته بالسلم والاعتراف بالآخر والتقاء الحضارات.