مرّة أخرى، في غضون أيام معدودة، يتريّث الرئيس سعد الحريري. وفيما كان الجميع ينتظر منه تفجيرَ قنبلة في وجه الحلفاء الذين وصفهم قبل أيام بـ»الخَوَنَة»، «بَلَع البحصة». والآن ماذا بعد؟
في البيئة القريبة من الحريري يردّد البعض كلاماً مفاده أنّ الرجل لم يتراجع عن قول ما سيقوله. وسيأتي اليوم الذي يبوح فيه بكل شيء. فهناك كلام كثير في هذا المجال.
ويضيف هؤلاء: «أساساً، عندما أعلن أنه «سيبقّ البحصة»، في برنامج «كلام الناس»، لم يحدِّد موعداً لذلك. لكنّ إعلان «المؤسسة اللبنانية للإرسال» أنّ المقابلة معه ستجرى يوم الخميس 21 الجاري، أوحى بأنّ الموعد منسَّقٌ معه، وهذا ليس حقيقة الأمر».
يعتقد البعض أنّ الاتصالات والمراجعات التي جرت مع الحريري، منذ إعلانه الشهير عن «بقّ البحصة»، دفعته إلى التريّث أو التروّي، انطلاقاً من مبدأ أن لا شيءَ مجانياً في السياسة، وأنّ كل خطوة يجب أن تُحسَب فيها الأرباح والخسائر.
الذين تدخّلوا للتهدئة مع الحريري هم من الحلفاء إجمالاً، لكنّ البعض يعتقد أنّ تدخّلات من مرجعيات روحية وديبلوماسية ذات وزن نجحت في تنفيس أجواء الاحتقان نسبياً، خصوصاً تجاه «القوات اللبنانية». فالوقت ليس مناسباً لخضّات تهزّ الاستقرار السياسي. ولذلك، أرجأ الحريري خطوته حتى إشعار آخر، من دون أن يلغيها نهائياً.
وفي كلامه مع الأقربين، في اليومين الأخيرين، أطلق الحريري انْتقاداتٍ حادة لأطراف وشخصيات محدّدة، عمد إلى تسميتها، وكانت هي المستهدَفة بقنبلته الموعودة. ولكن، كان لافتاً أنه لم يشمل «القوات اللبنانية».
ويوم الثلثاء الفائت، أي يوم أعلن عزمَه على «بقّ البحصة»، قال الحريري كلاماً إيجابياً عن «القوات اللبنانية». ففي استقباله وفد «إتّحاد جمعيات العائلات البيروتية»، سُئل عن العلاقة بها، فقال: «القوات حليفتنا، ولنا علاقات جيدة معها. وبالتأكيد هناك بعض الأمور التي يجب أن نعالجها، وسنفعل ذلك. ولكن، الجوّ الذي ينقله الإعلام في خصوص علاقتنا بـ«القوات» يجري تضخيمه».
وثمّة كلام في البيئة القريبة من الحريري على أنّ الاتّصالات بين «المستقبل» و«القوات» لم تنقطع في الأيام الأخيرة، على مستوى الوزراء، على رغم ارتفاع سخونة الأجواء. ولذلك، يتوقّع البعض أن تكون كرة الثلج بين الطرفين سائرة نحو الذوبان.
وعندما يُسأل هؤلاء: هل تسرَّع الحريري في إطلاق العنان لحملته ضد القوى الحليفة له في 14 آذار، متناسياً «خصومه الحقيقيين» في المقلب الآخر، يجيبون: «نحن لا نعتقد أنّ الحريري قد تسرَّع. وعلى العكس، يجب أن يقول الكلام المناسب لكي يعرف الناس حقيقة سلوك كل طرف ومواقفه. وهو سيفعل لاحقاً».
ويعتقد المتابعون أنّ الشرخَ العنيف الذي تعرّضت له قاعدة 14 آذار الشعبية، نتيجة الأزمة السياسية الأخيرة وكلام الحريري، هو الذي دفعه إلى التريّث في مواصلة الحملة. فقد ساد القواعد الشعبية جوٌّ من الاحتقان يذكِّر بما كان عليه الوضع قبل انتقال الرئيس رفيق الحريري إلى صفّ المعارضة ومشاركته في لقاءات «البريستول».
ففي تلك الفترة، التي كان يدير فيها السوريون كل شيء في البلد، كان هناك شرخ بين قواعد الأحزاب المسيحية وقاعدة «المستقبل». وفي تلك المرحلة، كانت هناك حال مهادنة داخل السلطة بين «المستقبل» ودمشق وحلفائها، فيما كانت القوى المسيحية موزّعة بين السجن والمنفى.
وكانت القواعد المسيحية، في تلك المرحلة، تنظر إلى «المستقبل» والنائب وليد جنبلاط على أنهما شريكان في المعادلة الهادفة إلى إبعاد القوى المسيحية أو اضطهادها. وهذا الشرخ النفسي بين القواعد لم يلتئم إلاّ بانتقال الرئيس رفيق الحريري وجنبلاط إلى الصف المقابل من خلال لقاءات «البريستول».
استشعر «المستقبل» أخيراً حجمَ الحملات الإعلامية التي سادت بينه وبين حلفائه من القوى المسيحية في 14 آذار، خصوصاً أنّ عدداً من صقور «المستقبل» ليس بعيداً من مواقف هذه القوى، ويشاركها القلق من تداعيات السير تماماً في النهج الذي يقود إليه «حزب الله».
وبدا واضحاً إرباك نواب «المستقبل» ووزرائه وكوادره في شرح وجهة نظر الحريري. وفضَّل هؤلاء في الأيام الأخيرة أن يتجنّبوا الإعلام، منعاً للإحراج.
ويتحدث المطّلعون عن اتصالات جرت بين هؤلاء وزملاء لهم في الأحزاب والقوى المفترض أنّ الحريري يستهدفها باتّهامه. ولم يكن في هذه الاتصالات شيءٌ من الحدّة، بل كانت إيجابية، ولم تكن خالية من الإرباك.
إذاً، هل يعني ذلك أنّ تريّث الحريري الثاني سيقود إلى نهاية سعيدة لأزمة العلاقات مع الحلفاء، بدءاً بـ«القوات اللبنانية»؟
البعض يقول: «قد تتراجع درجةُ الاحتقان بين الحريري وحلفائه الآذاريين. ولكن، إذا كان لبنان سيقع تحت تأثير المنخفض الجوّي الإيراني، بصمتٍ أو رضى سعوديَّين، فإنّ المسار السياسي الداخلي سيأخذ طريقه المرسوم.
وسيتكرّس الحلفُ الخماسي («الحزب»، بري – الحريري- عون- جنبلاط) كأولويّة فوق أيّ تحالف آخر، لأنه يترجم قوة الأمر الواقع. وعلى هذا الأساس، يمكن الكلامُ على مستقبل العلاقات داخل 14 آذار، بل مستقبل 14 آذار برمتها.