لم يوفّر رئيس الحكومة السابق سعد الحريري أياً من الأفرقاء السياسيين من «الملامة» في إطلالته التلفزيونية الأخيرة، على رغم اعتبار نفسه مرشحاً طبيعياً لترؤس الحكومة المقبلة. واعتبر أنّ حليفيه المفترضين، رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع ورئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط، تخلّيا عنه في أكثر من محطة. القوى الثلاث، التي كانت المدماك الأساس لفريق 14 آذار، لم تنجح بعد تحقيق إنجاز إخراج الجيش السوري من لبنان، في تحقيق أي إنجاز سياسي. تشرذُمها أدّى الى انتخاب رئيس للجمهورية من فريق 8 آذار، والى توسُّع نفوذ «حزب الله» في الدولة شرعياً عبر غالبية نيابية، فضلاً عن المساهمة في وصول البلد الى حافة الانهيار، بل الزوال.
يبدو أنّ «القوات» في وادٍ وتيار «المستقبل» و»الاشتراكي» في وادٍ آخر. لا لقاءات أو نقاط التقاء ثلاثية بين هذه القوى السياسية في هذه المرحلة، على رغم من أنّها تتطلّب جبهة معارضة سيادية وفق كثيرين لمواجهة «سيطرة «حزب الله» وبالتالي المدّ الإيراني ومحاولة تغيير وجه البلد وشكل الدولة»، وذلك بعد عدم بروز قيادات جديدة منبثقة من رحم ثورة اللبنانيين، لاستلام زمام المبادرة والسلطة، وإنقاذ لبنان من الموت المالي والاقتصادي والاجتماعي والتربوي والصحي.
حزب «الكتائب اللبنانية» انفصل عن السلطة القائمة نهائياً باستقالة نوابه من مجلس النواب. لقاء «سيدة الجبل» والنائب السابق فارس سعيد يحملان راية تأليف جبهة معارضة واسعة لـ»سلاح حزب الله»، ولا من يجيب. «القوات» كانت أوّل من استقال من حكومة الحريري الأخيرة، بعد يومين من «انتفاضة 17 تشرين الأول 2019». قبل هذه الاستقالة، كانت الخلافات كثيرة مع الحريري، على الكهرباء والموازنات العامة، الى آلية التعيينات والعلاقة مع «التيار الوطني الحر» و»حزب الله»، فضلاً عن الجرح القديم بُعيد استقالة الحريري عام 2017 من السعودية، وصولاً الى رفض «القوات» تسمية الحريري رئيساً للحكومة بعد استقالته جراء ضغط شارع 17 تشرين. أمّا القاء اللوم على إيصال عون، فمتبادل بين الحريري وجنبلاط وجعجع. وهناك خلاف على قانون الانتخاب بين هذا «الثلاثي» أيضاً، فضلاً عن النظرة الى الحكومة، والعلاقة مع «الحزب»، فجنبلاط كان السبّاق في المهادنة معه، ثمّ لحقه الحريري، فيما لا قنوات اتصال بين «القوات» و»حزب الله».
التواصل بين جعجع وجنبلاط قائم ومتواصل، أمّا الاتصال الأخير بين جعجع والحريري فجرى عشية استقالة الرئيس حسان دياب، تلاه لقاء جانبي على هامش اللقاء الذي عقده الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في قصر الصنوبر في 1 أيلول الماضي. والعنوان الرئيس لأي تواصل ثلاثي، حسب مصادر «القوات»، هو الاستقالة من مجلس النواب. حتى هذه الاستقالة التي يدعو اليها النواب الثمانية المستقيلون، تفرّق بين «الثلاثي الـ14 آذاري». «القوات» مع هذه الاستقالة، إنما ترهنها باستقالة ثلاثية، فيما يبدو أنّ الحريري وجنبلاط غير متحمسين لها، ولوحّا بها قبل استقالة دياب ورقة ضغط، فسارع رئيس مجلس النواب نبيه بري الى تقديم حكومة دياب ضحية على مذبح مجلس النواب، حين قرّر استدعاءها الى الاستجواب في المجلس جراء انفجار مرفأ بيروت في 4 آب الماضي، ففضّل دياب الاستقالة.
«القوات» تعتبر أنّ الاستقالة من مجلس النواب تغيير مسار، ولفرض انتخابات نيابية مبكّرة، من خلال إفقاد مجلس النواب ميثاقيته السنّية والدرزية والمسيحية بجزءٍ منها، وذلك لقلب الطاولة وفرض دينامية سياسية جديدة، والدفع الى إجراء انتخابات نيابية مبكّرة، إذ إنّ لا حلّ في سيطرة «الثلاثي الحاكم»، «حزب الله» وحركة «أمل» و»التيار الوطني الحر». انطلاقاً من ذلك كرّر جعجع دعوة «الاشتراكي» و»المستقبل» الى الاستقالة من مجلس النواب. في المقابل تعتبر مصادر تيار «المستقبل»، أنّ «الاستقالة من مجلس النواب والانتخابات النيابية المبكّرة لن تغيّران شيئاً في الواقع على صعيد دور «حزب الله»، فحتى لو جرت الانتخابات وأنتجت أكثرية ساحقة لـ14 آذار، فلا يُمكن إعلان الحياد أو نزع سلاح «الحزب»، الذي ليس في يدنا بل في يد الخارج». «القوات» ترفض هذا المنطق، وتقول مصادر نيابية في تكتل «الجمهورية القوية»: «إذا كانوا لا يريدون المواجهة ليسلّموا الدولة الى «حزب الله».
أمّا مصادر «الاشتراكي» فتسأل: «ماذا بعد الاستقالة من مجلس النواب وماذا بعد قلب الطاولة؟ من يجزم بأنّه ستُجرى انتخابات نيابية مبكرة؟ ومن يضمن ذلك؟». وتقول: «ليضمنوا إجراء الانتخابات فنقدّم استقالتنا فوراً». وتعتبر أنّ «الاستقالة هروب من المسؤولية مغلّف بالشعبوية». وتشير الى «أننا تواصلنا مع الأفرقاء المعنيين ومع «المستقبل» و»القوات»، وحين رأينا أنّ استقالاتنا لن توصل الى انتخابات نيابية مبكّرة «طوّلنا بالنا».
في المقابل، وعلى رغم مشاركة «اللقاء الديمقراطي» في استشارات التكليف وباللقاءات التشاورية والأخرى السياسية ـ الإقتصادية ـ المالية التي دعا اليها عون في القصر الجمهوري في بعبدا، وذلك بناءً على توجيهات جنبلاط، تستمر دعوات المسؤولين في «الاشتراكي» الى استقالة عون وتحميل العهد الفشل الحاصل. وقال جنبلاط في مؤتمر صحافي عقده في الفترة الأخيرة، إنّ الدعوة الى استقالة عون يجب أن تتصدرها القوى المسيحية وفي مقدّمها البطريركية المارونية، ولا يُمكن تحقيقها من دون هذه المطالبة المسيحية. أمّا «القوات»، فتعتبر أن «لا فائدة من استقالة عون في ظلّ وجود مجلس النواب الحالي الذي سيأتي برئيس جمهورية آخر شبيه بعون». وتقول مصادرها: «نريد تغيير السلطة بكاملها، والهدف انتاج سلطة جديدة، انطلاقاً من المدخل الاساس أي مجلس النواب، بعدها نطالب باستقالة عون، ضمن انتاج منظومة جديدة متكاملة لحُكم البلد».
قوى السُلطة تستفيد من هذا الاختلاف بين «المستقبل» و»الاشتراكي» و»القوات»، وتقول مصادر الفريق الحاكم: «يتحدثون عن انتخابات مبكّرة، لأنّ كلّ واحد منهم هدفه رفع نسبة تمثيله، لكن وفق قانون انتخاب مختلف. «المستقبل» و»الاشتراكي» يريدان تغيير القانون لاسترداد المقاعد التي كانا يحصلان عليها وفق النظام الأكثري. وفي حسابات «القوات»، أنّ «التيار الوطني» ضعف وتريد الانقضاض على بعض مقاعده، مع تمسُّكها بالقانون الحالي، لذلك لم يتفقوا، إذ إنّ الهدف ليس الخروج من الأزمة بل تسجيل نقاط في السياسة وتحقيق مكاسب حزبية». وتؤكّد «أنّنا لن نعتمد الغباء السياسي ونسمح لهم بمحاولة تغيير الأكثرية».
وفي المحصّلة، يقول أحد وجوه 14 آذار: «طار البلد، وما زال الحريري وجنبلاط وجعجع يتبادلون الملامة والعتاب».