خلافاً لما توخّاه احياء الذكرى الحادية عشرة لاغتيال الرئيس رفيق الحريري، خرجت منها قوى 14 آذار اكثر انهاكاً وتفككاً. لا سوء التفاهم في العلاقات الشخصية تبدّد، ولا التدليع المستجدّ بدا حلاً، ولا الخيارات السياسية توحّدت
افضت ذكرى اغتيال الرئيس رفيق الحريري، الاحد الفائت، الى اسوأ تصوّر يخطر في بال قوى 14 آذار أنها تصل اليه، خصوصاً في مثل هذا اليوم بالذات، اذ مثّل على الدوام العصب الوجداني الذي قبض على تماسكها ووحدتها لاكثر من عقد من الزمن، وقلل من وطأة التباين بين افرقائها.
لم يخلص احتفال «البيال» الى الجهر بالخلاف بين الرئيس سعد الحريري ورئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع على انتخابات الرئاسة فحسب. بل أبرَز للعيان ــــ ولجمهوري الرجلين اللذين انكفآ فجاة الى داخل كل منهما كأنهما على ابواب متاريس ــــ ان عبارة اطلقها الحريري مع اول خلاف عابر مع جعجع مفادها ان الموت وحده يفرّق بينهما، غير صائبة تماماً، أو لم تعد كذلك. في أحسن الاحوال استنفدت وظيفتها منذ اختلفا على مشروع «اللقاء الارثوذكسي» لقانون الانتخاب ثم تصالحا.
بدورها الصورة الجامعة على مسرح الذكرى، في خاتمة الاحتفال، لم تخفِ الرشوة، ولا محاولة مقايضة القوات اللبنانية بحزب الكتائب. كان يكفي التحديق في وجوه الذين صعدوا الى الخشبة: بينهم مَن كان يفضّل ان لا يفعل، وبعضهم الآخر كان يحتاج الى تزكية كهذه. الوحيدان المعنيان بالحدث وصورة استمرارهما معاً حضرا بلغتين مختلفتين: الحريري كي يجهر بأولوية ترشيح فرنجيه على وحدة قوى 14 آذار، وجعجع كي يجهر بأولوية التحالف على استحقاق وجد نفسه فيه بين فكي عون وفرنجيه.
ما لم يُخطر به
الحريري ان حرب جعجع مع عون كانت دفاعاً عن الطائف
ما آل اليه الاحتفال يشير الى ملاحظات، منها:
1 ــــ اصرار الحريري على المضي في ترشيح النائب سليمان فرنجيه لرئاسة الجمهورية وتبريره دوافعه. بالتأكيد كانت تلك المرة الاولى يتحدث علناً عن هذا الخيار منذ اجتماع باريس بين الرجلين في 17 تشرين الثاني. مذ ذاك التزم الصمت التام ما خلا ايحاءات تيار المستقبل بأن الخيار تارة هو افكار وطورا مبادرة، الى ان انتهى الى قرار. ما قاله الحريري الاحد اعلان ترشيحه رسمياً نائب زغرتا على نحو وضع تياره وحلفاءه امام أمر واقع.
2 ــــ تجاهل الحريري موقف جعجع المعارض لترشيح فرنجيه، وتمسك باظهار خياره على انه احد الحلول المحتملة للخروج من الشغور الرئاسي. للمرة الثانية بعد عام 2007، يهمل مواقف حلفائه المسيحيين، ويضعهم وجهاً لوجه امام امر واقع مماثل هو انه هو الذي يحدد خيار قوى 14 آذار في الاستحقاق الرئاسي. فعل ذلك عندما سمّى «المرشح التوافقي» العماد ميشال سليمان عامذاك. وها هو يدور في الفلك نفسه. تخلى عن ترشيح جعجع للرئاسة قبل ان يتخلى صاحبه عنه، على غرار عام 2007 حينما تجاهل مرشحي قوى 14 آذار آنذاك النائب بطرس حرب والنائب السابق الراحل نسيب لحود.
3 ــــ بالتأكيد تسلّح الحريري بحجة متينة هي دعوته مجلس النواب الى الالتئام، والتصويت لاحد ثلاثة مرشحين معلنين هم الرئيس ميشال عون وفرنجيه والنائب هنري حلو. ما عناه، على طرف نقيض من حزب الله، انه يذهب الى البرلمان لانتخاب الرئيس دونما الاصرار على فرنجيه مرشحاً وحيداً، على نحو تشبّث الحزب ليس بترشيح عون فحسب، بل ايضاً بفرض انتخابه. ذهب الحريري الى ابعد من حزب الله عندما حدد مفتاح موقفه من الاستحقاق: يتمسك بمرشحه وقد بات معلناً، لا يريد التصويت لعون ولا يقبل بفرضه عليه، لا يقاطع جلسة الانتخاب ولا يتسبب بتعطيل النصاب، لا يستخدم الفيتو السنّي للحيلولة دون الاستحقاق على نحو ما يفعل الفريق الآخر، بل جاهز لتوفير الغطاء السنّي الكامل لانعقاد الجلسة بلا شروط مسبقة.
4 ــــ ايحاؤه بأن لا فيتو سنّياً على ترشيح رئيس تكتل التغيير والاصلاح عبر تأكيد المواصفات التي يدعمها لمن ينتخبه مجلس النواب، عون او فرنجيه او سواهما، والاصرار على «الشريك» المنتخب التزام اتفاق الطائف والعيش المشترك والقانون والتخلي عن المشاريع الاقليمية. لا يقترع لعون، لكنه يهنئه ويتعاون معه اذا تمكن حزب الله من ايصاله الى الرئاسة. واقع الامر ان المرشحين المعلنين، نائبي كسروان وزغرتا، تجمع بينهما المشاريع الاقليمية سواء توقفت عند سوريا او امتدت الى ايران. لا ينفصلان عن حزب الله وسلاحه. يفرّق بينهما فحسب ان احدهما ربي في ظل اتفاق الطائف، والآخر انقلب عليه قبل ان يلتحق به وينخرط في نظامه ومؤسساته.
اذ ذاك يكمن المغزى الفعلي الذي لم يتنبه اليه الحريري عندما خاطب جعجع، وحمّله ضمناً ــــ وربما ليس وحده ــــ وزر الحرب المسيحية التي سبقت مصالحته وعون، قبل عقدين ونصف عقد من الزمن. ما لم يتنبه اليه الحريري ــــ لعله لم يعرفه او يخطره به والده الراحل يوماً ــــ ان حرب جعجع ضد عون وسقوط مئات من انصاره فيها كان دفاعاً عن اتفاق الطائف. لم يخطر للحريري الابن كذلك ان السفير الاميركي السابق جون مكارثي حرّض القوات اللبنانية من منزل الرئيس رينه معوض في اهدن، تشرين الثاني 1989، على خروجها عن صمتها حيال اتفاق الطائف والدفاع عنه. وكان ما كان. كان فرنجيه عامذاك في الرابعة والعشرين، لكن الحريري كان في التاسعة عشرة من عمره.