IMLebanon

هل “استوَت” الطبخة الحكومية؟

 

لم يعد السؤال إذا كانت ستتألف الحكومة التي دخلت عملياً في طور التأليف الجدي، إنما السؤال حول قدرة الحكومة العتيدة على تحقيق الإصلاحات وفك الحصار الدولي الجزئي او الكلي عن لبنان.

العد العكسي لتأليف الحكومة بدأ منذ لحظة دخول الرئيس جو بايدن إلى البيت الأبيض، وكل العراقيل او العقد التي حالت دون التأليف كانت إمّا مفتعلة او مضخمة او حقيقية، لكنّ الإرادة الفعلية لمعالجتها لم تكن موجودة بانتظار انتهاء ولاية الرئيس دونالد ترامب تجنّباً لعقوبات كانت محتملة. وإنّ عدم الإعلان عن هذا العامل او الإقرار به لا يعني انه غير موجود، فيما القوى المعنية بالتأليف ستعيد تشغيل محركاتها بقوة للإسراع في التشكيل مُتّكئة على فترة السماح الأميركية التي يمكن ان تمتد إلى الربيع او مطلع الصيف المقبل. وبالتالي، فإنه في هذا الوقت الأميركي الضائع سيتم تمرير الحكومة.

 

وجرت العادة في لبنان أن يحصل تشكيل الحكومات في لحظة تعقيد يكون التأليف فيها مُستَبعداً تماماً، وبعد أشهر من الفراغ والتعثّر، كما يصعب غالباً معرفة الأسباب الفعلية التي تفتح أبواب هذا التأليف باعتبار انّ التنازلات التي تكون قد حصلت لا تبرّر الفراغ المتمادي حيث كان يمكن الوصول إلى هذه التنازلات منذ اللحظة الأولى لانطلاق مشاورات التأليف. وأكثر تفسير منطقي للانفراج المفاجئ الذي يحصل في استحقاقات من هذا النوع يَكمن في عاملين أساسيين يتكاملان مع بعضهما البعض: وصول القوى المعنية بالتأليف إلى الحائط المسدود، واستواء الطبخة الحكومية.

 

وفي مراجعة لكلّ مسار التعقيد يتبيّن انّ رئيس الجمهورية ميشال عون له مصلحة كبرى وأساسية في تأليف الحكومة في محاولة أخيرة لإنقاذ عهده، لا سيما انّ حكومة تصريف الأعمال هي اسم على مسمّى وتعني إدارة الأزمات المتداخلة بالحد الأدنى من دون القدرة على وضع الخطط واجتراح الحلول، والمتضرر الأكبر من عدم التأليف هو العهد الذي يُستنزَف في الربع الأخير من ولايته، وبما يجعله في وضع المكبّل والعاجز أمام وضع ينحدر نحو الأسوأ.

 

لكنّ الحكومة التي تشكل حاجة ملحة للعهد وحتى مصيرية، لن يفرِّط بتشكيلها باعتبارها حكومته الأخيرة التي يريد من خلالها ان يضمن أمرين أساسيين: الإمساك بمفاصل القرار لتجيير الانجازات المحتملة لرصيده والحؤول دون عرقلته، والأمر الثاني يتعلّق بالربط مع مرحلة ما بعد انتهاء الولاية التي قد تكون مفتوحة على فراغ طويل يريد ان يحتفظ فيه بمواقع قوته ونفوذه.

 

ولا شك انّ الرئيس المكلف سعد الحريري يدرك حاجة العهد إلى تعزيز نفوذه داخل آخر حكومة في ولايته، كما يدرك أساساً النهج السلطوي لهذا العهد الذي كان الحريري شريكاً له، ويدرك أيضاً بأنّ صعوبة الظروف وقساوتها لن تدفعه إلى تغيير ما شبّ عليه. وبالتالي، كان عليه الا يتقدّم لتكليف نفسه، وليس الرهان على تبديل العهد لنهجه، لأنه لن يتبدّل وهو يعرف ذلك، وقد لمسه مؤخراً ومجدداً، ولو كان في نيته الاعتذار لكان اعتذر، إنما هو مصمّم على التأليف وينتظر اللحظة المناسبة.

 

وما تقدّم يعني انّ حاجة عون للتأليف لا تختلف عن حاجة الحريري الذي يريد الدخول إلى السرايا الحكومية واستعادة دوره على مستوى رئاسة الحكومة لـ3 أسباب أساسية: السبب الأول يرتبط بالمرحلة الجديدة التي بدأت أميركيّاً، وبإمكانه ان يتفاعل معها باعتبارها تشكل عودة إلى حقبة العمل الديبلوماسي، ومستفيداً من علاقات الرئيس إيمانويل ماكرون مع الرئيس جو بايدن، بما يخدم سياسات حكومته، والسبب الثاني يتعلّق باستحقاقات المرحلة الفاصلة عن نهاية العهد بدءاً من الانتخابات النيابية، وصولاً إلى الانتخابات الرئاسية، وتفضيله خوضها من موقع القرار الرسمي والنافذ كونها استحقاقات مفصلية، والسبب الثالث يرتبط بمرحلة ما بعد نهاية العهد، والتي تتحدث كل الترجيحات عن فراغ طويل. وبالتالي، يفضِّل ان يكون في هذه المرحلة بالذات في السرايا الحكومية لا بيت الوسط، أي في الموقع الذي يستطيع من خلاله التأثير بشكل أكبر بالمساهمة في رسم معالم العهد الجديد.

 

وفي موازاة عون والحريري يبقى «حزب الله»، الذي تشكِّل له الحكومة مصلحة كبرى واستراتيجية، لأنّ أولويته الحفاظ على الستاتيكو الحالي الذي في حال انهياره سيكون من أكبر الخاسرين، فيما من مصلحته تدعيم الستاتيكو القائم الذي يُمسك من خلاله بمفاصل الدولة، وخلاف ذلك سيفقد ما ورثه عن النظام السوري من سلطة بدأت مع الانقلاب على اتفاق الطائف في العام 1990، خصوصاً انه يعتبر انّ هناك من يسعى لإسقاط الدولة تمهيداً لإسقاطه وتشليحه الورقة اللبنانية. وبالتالي، يتطلّع الحزب إلى حكومة تُزاوج بين ترييح حليفه العهد، وبين ترييح الحريري لتمكينه من إعادة الوصل مع الخارج لاستقدام المساعدات الخارجية التي تعيد التوازن إلى الوضع اللبناني.

 

وطالما انّ تشكيل الحكومة يشكل تقاطعاً بين عون والحريري والحزب، فهذا يعني انّ الحكومة ستُؤلّف، وانّ المسألة مسألة وقت لا أكثر، وانّ خروج ترامب يُريِّح الحريري الذي لم يتكلّف على قاعدة ربط النزاع مع العهد والحزب، إنما كلّف نفسه وكُلِّف من أجل تأليف الحكومة، ولكنه لا يريد في الوقت نفسه أن يدخل في مغامرة تؤدي إلى إضعافه بدلاً من تقويته، وخسارته ما تبقى له من أوراق بدلاً من تعزيزها.

 

ويمكن القول انّ الكلام الجدي في التأليف سيبدأ اعتباراً من الآن. ومع انتفاء العقبة الأساسية المتعلقة بالعقوبات، مبدئيّاً، تصبح كل العقد الأخرى قابلة للأخذ والرد، خصوصاً انّ الوساطات التي دخلت على خط التأليف من باريس، إلى بكركي، وصولاً إلى اللواء عباس إبراهيم والرئيس حسان دياب، تقاطعت عند نقطة أساسية تتمثّل في انّ العقد محلية وقابلة للمعالجة، الأمر الذي يؤكد انّ هناك من كان ينتظر التوقيت المناسب لتذليل هذه العقد المفتلعة والمضخّمة تمهيداً لصدور مراسيم التأليف.

 

لكنّ السؤال الأساس يبقى ويتمحور حول ماذا بعد تأليف الحكومة العتيدة؟ وهل ستتمكن هذه الحكومة من تحقيق الإصلاحات المطلوبة؟ ولماذا ستنجح حيث فشلت حكومة دياب؟ وهل ستبدِّل الأكثرية الحاكمة في نهجها وأسلوبها وممارستها؟ وما تأثير الإصلاحات التي يشترطها المجتمع الدولي، فيما لو وافقت عليها الأكثرية، في دورها ونفوذها؟ والسؤال الأبرز ماذا عن المجتمع الدولي؟ وهل هو في وارد التساهل مع لبنان؟ وهل سيبدِّل في سياسة الضغط التي يعتمدها في مواجهة النفوذ الإيراني الذي يترجم في لبنان بواسطة «حزب الله»؟ وهل الرياض في وارد التساهل مع الحكومة في حال لم تلمس انّ هذه الحكومة ستحدّ من دور الحزب ونفوذه؟ وهل المجتمع الدولي بصدد تغيير السياسة التي اتّبعها بحصار الدولة من أجل حصار الحزب؟ وهل يمكن ان يتخلى عن هذا التكتيك الذي فعل فِعله بانتظار ان تنضج التسوية مع إيران؟ وما الفائدة من ترييح لبنان، واستطراداً الحزب، والتراجع عن سياسة الضغوط قبل الوصول إلى تفاهمات مع طهران؟

 

وإذا كانت الحكومة قد سلكت أو ستسلك طريقها باتجاه التأليف ترجمةً لرغبة عون والحريري و»حزب الله»، وإذا كان هناك من يضمن بأن العقوبات عُلِّقت، أقله في المرحلة الانتقالية الانتظارية الأميركية، فهل من يضمن ان تنجح حكومة الحريري حيث فشلت حكومة دياب؟ وهل من يضمن أن يَلين الموقف الخارجي ويتبدّل؟