كان منتظراً أن ينفجر الشارع في محطة ما، في وجه تصاعد الأزمة المعيشية التي بلغت ذروة لا يحتملها الفقراء الذين يزدادون فقراً، مع ضرورات الإقفال العام في البلاد، الذي حتمه المدى الذي بلغه تفشي وباء كورونا، والذي حرم هؤلاء لقمة العيش من عملهم اليومي المتعثر أصلاً.
الذين يعيشون كفاف يومهم في لبنان يبلغون أكثر من 60 في المئة من السكان. وهؤلاء هم زهاء 80 في المئة في طرابلس الأبية.
من بديهيات الأمور أن يقود الانسداد في أفق تشكيل الحكومة إلى ما يشهده الشارع الطرابلسي، وأن يؤدي اختناق اللبنانيين من الجائحة ومن العوز والعجز عن تلبية أدنى متطلبات الحياة، إلى انعكاسات أمنية كنا نراها بالمفرق في تكاثر جرائم السرقة والقتل من أجل السرقة كما لم يحصل سابقاً. جميع الخبراء ومعظم السياسيين توقعوا ذلك ونبهوا منه.
في الحكم رجال لم يأخذوا مرة واحدة هذه التوقعات في الاعتبار، ولم يعيروا ضرورة التحسب له، الأهمية التي توازيه، في تسريع البحث عن الحلول السياسية والاقتصادية، وعملية انتظام المؤسسات كي لا يسقط البلد في الحضيض، واستدراك مفاعيل الإقفال العام على الفقراء ببرنامج مساعدات. فبين مصالح هؤلاء السياسية وشهواتهم السلطوية، والتحسب لسقوط لبنان الصاروخي في الهاوية جراء منطق المحاصصة، يفضلون التمسك بمكتسبات السلطة وبحجز مواقعهم فيها إلى الأبد.
حين يسأل الفريق الرئاسي عن مصير البلد ومَن فيه إذا استمر الفراغ الحكومي نتيجة تشبثه بمطالبه في التركيبة الحكومية، وعن انعكاس ذلك على الاقتصاد، لا يجد حرجاً في الإجابة بأنه لا يقبل التنازل ليتولى غيره الحكم عن طريق حكومة المستقلين، ولن يخضع للضغوط لتعديل موقفه، وليكن ما يكون. ليس هذا السلوك جديداً. تجربة تدمير البلد في 1988 – 1989 من أجل الرئاسة ما زالت ماثلة أمام اللبنانيين. وإن كانت تلك المرحلة شهدت انهياراً بالوسائل العسكرية، فإن الانحدار اليوم إلى القعر يجري بالوسائل المالية الاقتصادية. في حينها توهم هذا الفريق بأن تحميله الخصم المسيحي المسؤولية عن انتكاسة الدور المسيحي في التركيبة الحاكمة يبرئه، فإذا بعموم المسيحيين وسائر اللبنانيين يتحملون وزر ودمار حروب خيضت باسم حقوق المسيحيين، والسيادة واستعادة السلطة الشرعية دورها من هيمنة الميليشيات. واليوم، باسم تلك الحقوق تتكرر التجربة نفسها في ظل مروحة أوسع من الخصومات مع رموز الطائفة كلها، ومع سائر القوى السياسية في الطوائف الأخرى، مستعيداً القاعدة العبثية القائلة بأنه ما دام الجميع ضده هذا دليل على أنه على حق.
لكن الفريق الرئاسي يستند اليوم، كما راهن قبل 30 سنة على عراق صدام حسين، إلى الحليف الوحيد “حزب الله”، الذي يعلّق البلد على وقع العلاقة الأميركية الإيرانية التي سيطول انتظار ما ستتمخض عنه في العهد الرئاسي الأميركي الجديد. ولا يضيره مثل عون، ذهاب البلد بفعل تأخير الحكومة، إلى الانهيار الكبير. فـ”الحزب” مثل حليفه لا يستسيغ قيام حكومة مستقلين يأخذون القرارات بعيداً من الأحزاب، في ظرف إقليمي ضاغط يتطلب منه التحكم بها.
قد يستفيد البعض من الفوضى التي تسود الاحتجاجات. وقد يسعى الحليفان إلى تحويلها إلى عنصر ضاغط على الرئيس المكلف سعد الحريري، ولتبرئة الحكم ومن يقف خلفه، من النقمة ضد مآسي الطرابلسيين واللبنانيين، لكن الألاعيب الإعلامية والأمنية واستغلال الشارع لن تحجب خلفيات انفجار الشارع. فنحن ما زلنا في البداية.