بعد أن أغلقت أبواب التشكيل الحكومي واستحكمت حلقات التعسير ودخل البلد دائرة الفوضى من طرابلس وتجدّدت جرائم الاغتيال مع استهداف الناشط لقمان سليم، تحوّل المشهد السياسي إلى متاريس داخلية وتحصينات في المواقع الرئاسية، وترحال للرئيس المكلف سعد الحريري بغية استسقاء العواصم بعض الغيث في زمن سيطرة القحط والإفلاس وابتعاد العرب عن مضارب الجبال والقلاع والمدن اللبنانية بعد أن كانت لهم موطناً ثانياً ينزلون فيه أهلاً للبيوت وضيوفاً لبلاد الأرز.
وضع الرئيس ميشال عون قواعد صراع وصدام في معركة تشكيل الحكومة، بدل أن تسود القواعد الدستورية وتسيطر الأخلاقيات المحافظة على المصالحة العامة، فشيّد المتاريس حول القصر الجمهوري ونصب راجمات الصواريخ الإعلامية بقيادة رامي القصر والفيلسوف «الدستوري» سليم جريصاتي، حتى باتت رئاسة الجمهورية عنواناً للصدامات والتجاذبات المستغربة، التي لم يسبقه إليها أحد، مستفيداً من حالة غياب الوعي لدى أغلب الطبقة السياسية.
في المقابل، عمد الرئيس سعد الحريري إلى إثارة ما تبقى لديه من شارع ومن بعض المنصّات الإعلامية، لكنّه بقي وحيداً في السياسة، رغم التضامن معه بعد تلقّي الشتيمة الرئاسية في المشهد المسرّب عمداً من قصر بعبدا، فلا أحد مقتنع أنّ بإمكانه عمل شيء بحكومة تشبه حكومة حسان دياب، أو بحكومة حزبية ألوانها خليط الأصفر والبرتقالي، إلاّ إذا كان هدف الحريري الوصول إلى كرسيّ الرئاسة الثالثة فقط، بغضّ النظر عن النتائج أو إمكانية الإنتاج.
الحريري وإغراء تقليد عون
يخشى العارفون بمسارات الحريري أن يكون قد قرّر تقليد الرئيس عون في الوصول إلى الحكم ثمّ في اتّباع قاعدة «التجاهل» حيال كلّ الكوارث التي تقع وهو في موقع المسؤولية، وأن يكون الحريري قد استطاب حالة الانفصام التي يعتمدها أهل السلطة، فيستمرئ خرق القوانين وتمزيق الدستور وتحوير عمل الأجهزة الأمنية والقضائية، وبالتالي فإنّه يريد تشكيل الحكومة وبعدها لتنزل الكارثة.
«حزب الله» للحريري: قاتل لوحدك
الواضح اليوم أنّ «حزب الله» يقول للرئيس الحريري «إذهب أنت وربك فقاتلا، إنّا ههنا قاعدون»، وعليه، شدّ الحريري الرحال إلى القاهرة، قاصداً مصر بموقعها في التقاطعات العربية والإقليمية، في محاولة منه لزحزحة صخور المقاطعة للبنان، ولإيجاد نافذة اختراق تعيد له الوصل مع الرياض، لأنّه يعلم أنّ تدفـّق الأموال إلى لبنان لن يعود إلاّ إذا وضعت السعودية نهاية لمقاطعتها للبلد، وهي المقاطعة التي اضطرّت إليها بعد أن سقط لبنان بيد «حزب الله».
يدرك الحزب أنّ مسعى الحريري يواجه استحالة في النجاح، لكنه يقدّم استثماراً ثميناً، وشراءً للمزيد من الوقت الضائع بانتظار اتضاح الخيط الأسود من الخيط الأبيض من التسوية المنتظرة بين واشنطن وطهران، ولهذا فإنّ رحلة الحريري إلى القاهرة ثم أبو ظبي لا تحمل أفقاً جدياً رغم أهمية المقاربات التي سمعها في مصر وسيسمعها في الإمارات.
الحقائق والثوابت: لا حلّ بدون السعودية
لكن الثابت أنّ الموقف السعودي يجدِّد التأكيد على ضرورة التخلّص من هيمنة «حزب الله» وسلاحه على الحياة العامة في لبنان، وهذا يناقض ما يسعى إليه تحالف الحزب مع الرئيس ميشال عون من إعادة تطبيع لهذه الهيمنة الإيرانية من دون التراجع عن الخطوات الهدّامة التي اتخذها هذا الفريق وأوصلت البلد إلى الإفلاس والفوضى وتريد البقاء فوق تلّة الدمار وإعادة العرب والمجتمع الدولي لرفد مؤسسات الدولة المنهوبة والمحتلة بالأموال، وكأنّه لا إدانة لسليم عياش بجريمة قتل الشهيد رفيق الحريري، ولا تفجير لمرفأ بيروت قد وقع، ولا انهيار اقتصادياً يضرب مستقبل اللبنانيين، وفوق هذا كأنّه ليس هناك سلاح لا يزال يُعمِل القتل والإرهاب من سوريا إلى العراق ومن اليمن إلى لبنان.
يراهن الحريري على إمكانية تطوير الموقف المصري والإماراتي إلى حالة تقبل وترضى بوضعية «حزب الله» المسيطرة على البلد، مع استمرار الاعتكاف السعودي عن التعاطي في الشأن اللبناني، مما يسمح بتخفيف الضغوط المالية والاقتصادية، بانتظار تطورات التسوية الإيرانية الأميركية.
لكنّ هذه المراهنة متسرّعة بالنظر إلى تجربة الإمارات في التعاطي مع النظام السوري، فقد بقيت محدودة ومحصورة ولم تستطع إحداث تغيير واسع النطاق، لأن السعودية ومعها عواصم القرار الدولية رفضت أي تساهل مع نظام بشار الأسد.
الأمر نفسه ينطبق على الحالة اللبنانية، فلا إمكانية لحصول اختراق جدي، وستبقى الانفراجات الحاصلة على خطّ إطلاق سراح بعض اللبنانيين المحكومين من السجون الإماراتية، تراكم على مستوى العلاقات الثنائية بين الحزب وأبو ظبي، وربما كان لها امتدادات تطال الساحة اليمنية حيث اشتبك الطرفان قبل التحولات الكبيرة التي غيّرت من طبيعة التحالفات ومن واقع سير الأحداث في اليمن.
سلطة تعادي العرب لن تنال دعمهم
كلّ محاولات التحايل على اغتصاب الدولة لن تنجح، وجميع مناورات الخداع للعرب وعواصم القرار الدولية لن تغيّر من مسار الطريق إلى جهنّم، فلا أحد مهتم بدعم بلد يسيطر عليه حزب يمدّ شبكاته في المنطقة ويحوّل عاصمته إلى قاعدة لاستهداف أمن دول عربية تعاني من العدوان الإيراني عليها، بينما تستمرّ جرائم الاغتيال والتفجير والإرهاب مسلّطة على معارضي هذا الخطّ، وهي مرشّحة للاستمرار والتصاعد أكثر في قادمات الأيام.
سلطة بهذه المواصفات، لن تجلب للبنان سوى المزيد من الكوارث والنكبات ولم يعد تنبؤءاً القول إنّ اللبنانيين سيشهدون أسوأ أيامهم في ما تبقى من أيام العهد العونيّ، مع اجتماع الوباء والمجاعة والإفلاس في أيقونة واحدة: لعنة عهد وسلاح.