أراد الرئيس سعد الحريري أن يكون لقاؤه الأخير في بعبدا تفجيريّاً، فهو كان يعرف مسبقاً موقف الرئيس ميشال عون. ربما بدأ الحريري يقتنع بأن لا شيء عنده ليخسره، خصوصاً أنّ عون نفسه قام بعملية التفخيخ عندما اتهمه بـ»الكذب» أمام رئيس حكومة التصريف حسّان دياب. ولذلك أيضاً، قرّر الردّ بقنبلة من العيار الثقيل في خطاب الأحد. وفي انتظار الردّ على الردّ من باسيل، تبدو أزمة عون – الحريري وكأنها انتقلت من «المصارعة الحرّة»، بالضوابط، إلى الضربات المحرَّمة.
إذا لم تدخل أي مفاجأة على الخط، فلا أفق لحكومةٍ جديدة، ولا لأي نوع من الحلول السياسية، والأمور مستمرة في انزلاقها حتى القعر. ولكن، يجدر التذكير بأنّ خلاف بعبدا – «بيت الوسط» ليس هو السبب في الأزمة، كما يحاول البعض تظهيره، بل هو جزء من المشهد المرسوم لا أكثر.
هل يقتنع أحد بأنّ عون والحريري كانا سيستمرّان على مواقفهما السياسية من مسألة التشكيل، لو جاءت لحظة التسوية بين واشنطن وطهران، بتغطية فرنسية وسعودية، وتبلَّغ الجميع- بمَن فيهم «حزب الله»- بأنّ المطلوب أن «تَمْشوا»؟
الواضح أنّ القوى السياسية تمارس اليوم أنواعاً من «الدلع السياسي»، فالولايات المتحدة تشجّع على إطالة أمد المراوحة إذا كانت أي حكومة جديدة ستكرِّس نفوذ «حزب الله». وفي المقابل، تشجِّع إيران على تعطيل الحلول إذا سارت في الاتجاه المعاكس.
اكتشف الحريري، ومعه صديقه الفرنسي الرئيس إيمانويل ماكرون، أنّ الإدارة الأميركية الجديدة ما زالت تتمسّك بشرط إضعاف «الحزب» في أي حكومة، كما كانت الإدارة السابقة. وفي المقابل، هو يدرك أنّ إيران لن تسمح إطلاقاً بتشكيل حكومة تعزلها عن القرار السياسي والمالي والإداري والأمني والقضائي، ولن تسلِّم – بأي ثمن- بخسارة لبنان، قاعدة نفوذها على المتوسط وحدود إسرائيل.
إذاً، لا داعي ليبذل السياسيون في الداخل جهوداً في غير محلِّها. فالمفاوضات الحقيقية لولادة حكومة في لبنان، ولحل الأزمة عموماً، لم تبدأ فعلاً، وهي ستتمّ حصراً بين واشنطن وطهران، لا بين عون والحريري في قصر بعبدا، ولا حتى بين ماكرون وزعماء الطوائف في قصر الصنوبر.
أمّا زيارة ماكرون الوشيكة للمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة فقد تفتح حواراً يخصّ لبنان بجانب منه، ولكنه لن يمرّ إلا في سياق الحوار الأكبر بين واشنطن وطهران والرياض.
إذاً، هناك مزيد من الانتظار في لبنان. فماذا سيفعل الحريري في هذه الأثناء؟
كثيرون في محيط الحريري يعتقدون أنّ الأفضل له أن يغادر الملعب ويترك لعبة الانتظار المُملّة لسواه. فعلى الأقل، هذا يجنّبه تحمُّل المسؤولية عن مرحلة جديدة من الانهيارات، على غرار المسؤولية عن انهيار 17 تشرين الأول 2019. وفي اعتقاد هؤلاء أنّ قوى سياسية عدة تدفَع الحريري ليكون في الواجهة، فتختبئ خلفه لتجعله كبش المحرقة.
لكنّ آخرين يعتقدون أنّ بقاءه داخل اللعبة هو ضمانة له على رغم كل شيء. فالخسائر التي سيتكبّدها نتيجة انسحابه تفوق الخسائر التي يتكبّدها اليوم. وفي فترة سابقة، عندما اضطر إلى الابتعاد عن السرايا والبلد، دفع الثمن غالياً على مستوى زعامته داخل «المستقبل» والطائفة السنّية.
ولكن، من المثير أن يبدو الحريري اليوم من دون خصومٍ حقيقيين، ولكن أيضاً من دون حلفاء حقيقيين في الداخل. فـ»القوات اللبنانية» والاشتراكي ليسا حليفين له بالكامل. أمّا الرئيس نبيه بري فليس خصمه بالكامل، فيما خصمه السياسي المفترَض «حزب الله» يبدو أكثر المدافعين عن وجوده في السرايا، من تحت الطاولة.
ولذلك، مشكلة الحريري أنه لا يستطيع مُجاراة الاتجاه القائل بعزل «الحزب» والقوى السياسية تماماً عن الحكومة. وهو يحاول تركيب صيغة ترضي الجميع على الطريقة اللبنانية. وهذا الموقف يتلاءم والنظرة الفرنسية أيضاً، ولكنه لا يرضي الأميركيين والسعوديين.
أمّا في الخارج، فتحالفات الحريري لا تقلّ إثارة. فالرجل يحظى بتوافق السعودية وإيران معاً، على رغم مآخذ الطرفين عليه، كلٌّ من زاويته، كما يبقى نقطة التقاطع «الواقعية» بين واشنطن وباريس وسائر العواصم المعنية، ما دام يتعذّر المجيء بحكومة كاملة من المستقلين، مِن رأسها إلى آخر وزير فيها.
وفي خضمّ هذه المعادلات السوريالية من التحالفات والخصومات الداخلية والخارجية، يقف الحريري مراهناً مرّة أخرى على الوقت. فهو يعتقد أنّ المسألة في لبنان تُحَلُّ دائماً «من فوق»، وأنّ التفاصيل الداخلية لا تقدِّم كثيراً ولا تؤخّر. وهذا الاعتقاد هو نفسه الذي إليه ارتكَزَ الرئيس رفيق الحريري خلال وجوده في السلطة. لكنّ الوقت طال آنذاك، وتأخّرت الحلول كثيراً.
الوضع اليوم ليس أقل صعوبة، فهناك جمهورية معطَّلة على رغم وجود رئيس لها، وحكومة معطَّلة على رغم وجود رئيسين، أحدهما للتصريف والآخر للتأليف، ومناخ إقليمي – دولي يوحي بمزيد من التوتر والمفاجآت في أي لحظة.
وفي هذا الخضم، يجد الحريري نفسه مضطراً إلى التمَوضع في نقطة حسّاسة. فهو لن ينسحب من اللعبة تَخاذلاً، ولن يتقدّم خطواتٍ متسرِّعة انتحارياً. فلا شيء يضمن أن يطول الانتظار اليوم أيضاً.