لم يخرج الرئيس ميشال عون برسالته إلى اللبنانيين مساء أمس الأول، سوى لأنّ التسوية الحكومية بلغت خواتيمها بدفع دولي وداخلي كبير، فأراد ان يفتعل مشهدية تُظهره في موقع المبادر والمتحدّي، في محاولة لتغطية التنازل الذي سيُقدم عليه عاجلاً أم آجلاً باتجاهين: القبول على مضض بالرئيس سعد الحريري، والتراجع عن الثلث المعطِّل وأمور أخرى.
لكل أزمة تخريجة، وما حصل في اليومين الأخيرين يندرج في سياق الشروع في الترجمة للاتفاق الكبير الذي أُنجز على تأليف الحكومة، التي ستبصر النور قريباً، وينمّ عن محاولة أخيرة من رئيس الجمهورية لإحراج الرئيس المكلّف فإخراجه. فالرئيس عون، الذي لم يعد باستطاعته مواجهة ضغوط «حزب الله» غير المرئية، استخدم ورقته الأخيرة، علّه ينجح باستفزاز الرئيس الحريري فيعتذر او يرفض عقد الجولة الـ17 معه، فتكون الكرة أصبحت في ملعبه، لأنّ من يسعى بشكل جدّي إلى تأليف الحكومة لا يوجّه رسالة إلى الرئيس المكلّف في هذا الشكل، بل يتواصل معه بعيداً من الإعلام، سعياً لعقد جولة جديدة تُفضي إلى تشكيل الحكومة العتيدة. ولكن في مطلق الأحوال، قطع الحريري الطريق سريعاً على محاولة الرئيس الأخيرة بدعوته أولاً إلى الاستقالة من رئاسة الجمهورية، وبتأكيده ثانياً استعداده للقاء من أجل مناقشة المسودة الحكومية.
وقد نجح الحريري في لعبة تسجيل النقاط في مرمى العهد، الذي كان يتوقّع أو يراهن على تراجع الرئيس المكلّف تأسيساً على مساره السابق، ولكنه فاجأ العهد وخاض معه مواجهة حافة الهاوية، إلى ان اضطر العهد إلى التراجع، ومعلوم انّه منذ لحظة إعلان الحريري رغبته في التكليف وضع رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل هدفاً مزدوجاً: إما تكون عودة الحريري إلى السرايا عن طريق عودة ثنائية الحريري-باسيل، بالتنسيق والتواصل، وإما عرقلة مهمته ودفعه إلى الإعتذار، ومع رفض الحريري الدائم للقاء باسيل، تواصلت محاولات الإحراج للإخراج منذ اللحظة الأولى وتأجيل الإستشارات، مروراً بالرسالة المتلفزة للكتل النيابية وتحذيرها من مغبة تكليف الحريري، وصولاً إلى الفيديو المسرّب والرسالة الأخيرة، وما بينها من محطات أخرى تبدأ بالشروط ومحورها الثلث المعطّل، ولا تنتهي بتهجمات باسيل على الحريري والبيانات المتطايرة بين بعبدا وبيت الوسط.
وإذا كان التأليف سيحصل نتيجة ضغوط «حزب الله» على العهد، ولكن الأخير لن «يبلع» فشله في دفع الحريري إلى الإستقالة، وفي ترتيب لقاء بينه وبين باسيل، وبالتالي سيردّ لاحقاً الصاع صاعين في جدول أعمال مجلس الوزراء وعلى طاولة هذا المجلس، وستكون العلاقة بين الرئيسين متوترة جداً وتنعكس على إنتاجية الحكومة العتيدة، التي يجب ان تكون استثنائية ومكثفة، في محاولة لفرملة الانهيار، خصوصاً انّ الأزمة المالية بلغت مراحل متقدّمة بات يصعب معها أي معالجة تقليدية، ولكن الرهان على الحكومة في ظلّ التوتر الرئاسي لن يكون في محله، حيث سيتعامل معها العهد وكأنّها فُرضت عليه ويعمل المستحيل لتغييرها.
وأولوية الرئيس عون الدائمة هي لمعاركه الذاتية بمعزل عن انعكاساتها الوطنية، ومن الخطأ التعامل مع هذا الفريق على قاعدة مثلاً، انّ الأزمة الحالية يجب ان تدفعه إلى تنازلات تجنّباً لارتداداتها عليه بالدرجة الأولى، وهو ما قد يقوم به أي فريق آخر، إلّا انّ الذهنية العونية ترى في التنازل خسارة مدويّة، حتى لو كانت هذه الخسارة أقل بكثير من انعكاسات عدم التراجع والتنازل، والأمثلة على هذا المستوى أكثر من أن تُعدّ وتُحصى.
وإذا كان الحريري قد تمسّك بشكل معيّن لحكومته، لكونه لا يريد ان يكرّر تجربة الرئيس حسان دياب، ويريد من الحكومة ان تشكّل رافعة له لا مقتلا، ولا شك بأنّه سيحاول بعد التأليف ان يستثمر اشتباكه مع العهد أميركياً وخليجياً، في محاولة لاستجلاب الدعم الذي لا مؤشرات إلى تدفقه إلى لبنان الذي عليه ان يواصل سياسة شدّ الأحزمة، وان يبقى واقفاً على رجليه تمريراً للمرحلة الانتقالية التي دخلتها المنطقة مع الإدارة الأميركية السابقة.
أما العوامل التي ستُخرج الحكومة من الفراغ والتعطيل، فتكمن في الآتي:
أولاً، لا يشبه الفراغ الذي كان قائماً كل الفراغات السابقة، لأنّ استمراره هذه المرة يعني انزلاق لبنان إلى انفجار اجتماعي، يصعب معه توقّع مصير البلد من بعده، باعتبار أنّ دينامية الفوضى متحرّكة ومختلفة تماماً عن الدينامية السياسية، والانفجار الاجتماعي قد يتحوّل إلى انفجار أمني.
ثانياً، لا أحد يريد ان ينفجر لبنان، لا القوى المحلية الأساسية، ولا القوى الخارجية، وبالتالي إرادة التفجير غير متوافرة لا في الداخل ولا الخارج، الذي يريد ان يتجنّب أزمة نازحين مثلثة جديدة: لبنانيين وسوريين وفلسطينيين، كما يريد ان يتجنّب اي ارتدادات للانفجار اللبناني على ما يُحضّر على مستوى المنطقة، وهذا لسان حال كل عواصم القرار ومن بينها موسكو، التي نُقل عن وزير خارجيتها سيرغي لافروف أثناء اجتماعه مع وفد «حزب الله» كلاماً مفاده، انّ تأليف الحكومة ضروري جداً حفاظاً على الاستقرار والحؤول دون الانهيار وتداعياته المدمّرة على لبنان ودول الجوار، وتعريضه المصالح الاستراتيجية لروسيا في سوريا لتهديدات قد تؤثر سلباً على الجهود المبذولة للحلّ الذي تعمل له روسيا من أجل سوريا.
ثالثاً، يعتبر «حزب الله» انّه الطرف الأكثر تضرّراً من الانفجار الاجتماعي الذي يُضطره إلى نقل اهتمامه إلى داخل بيئته الأكثر عرضة للاهتزاز بسبب الفقر والسلاح، فيما يعتبر أساساً انّ دفع لبنان في هذا الاتجاه هو مؤامرة ضدّه لانتزاع ورقة الدولة منه من جهة، وإدخاله في سياسة إلهاء داخلية من جهة أخرى، ولكن الأخطر بالنسبة إليه، انّ الانفجار يمهِّد الطريق نحو التدويل، فيما التأليف كفيل بقطع الطريق إلى المؤتمر الدولي الذي يشكّل انعقاده مقتلاً لسلاحه ودوره، لأنّ أي مؤتمر من هذا النوع لن ينعقد قبل انتزاع تعهّد من طهران برفع يدها عن بيروت.
رابعاً، على رغم انّ غضب الناس طبيعي بسبب تردّي الأوضاع، وعلى رغم انّ تحليق الدولار طبيعي أيضاً بسبب غياب الحلول ومراوحة الأزمة واشتدادها، إلّا انّ ما حصل في الأسبوعين الأخيرين كان تحريكاً متعمّداً للدولار والأرض، من أجل الضغط على رئيس الجمهورية والرئيس المكلّف لإخراج الحكومة من عنق الزجاجة. فلو نعى الحريري التأليف في لقائه أمس، لكان بلغ الدولار سقوفاً عالية دفعة واحدة، وهذا من دون الكلام عن ارتدادات فشل هذا اللقاء وارتفاع الدولار على الناس الغاضبة وحركة الشارع، الأمر الذي لا يمكن للرئيسين تحمّله، فوضعا عملياً تحت أمر واقع التسوية الاضطرارية والمفروضة عليهما. فعون لا يريد التعايش مع الحريري تحت سقف حكومة واحدة، والحريري يخشى على فشل حكومته مع عون، ولكن التعايش مفروض عليهما على قاعدة «مجبر أخاك لا بطل»، والسؤال الذي سيطرح نفسه لاحقاً: إلى أي حدّ ومدى ستتمكن حكومة الأمر الواقع العتيدة من مواجهة الأزمة المالية؟
خامساً، هناك إرادة دولية بإبقاء لبنان في قلب المرحلة الانتقالية، بانتظار انتهاء الانتخابات الإسرائيلية والسورية والإيرانية، وانتهاء واشنطن من درس خطواتها على مستوى المنطقة، وبالتالي الأولوية الدولية اليوم هي لتشكيل حكومة، طالما انّ الفراغ يقود إلى الانفجار، ولو لم يكن كذلك لكانت استمرت الحكومة المستقيلة حتى نهاية العهد وما بعده، ولكن تطور الأزمة المالية وضع الجميع أمام خيارين لا ثالث لهما: إما التأليف أو الانفجار.
ولكن، من يقول مثلاً انّ اللقاء المقبل الذي سيحمل الرقم 18 لن يعيد الوضع إلى ما قبل اللقاء الأخير ذات الرقم 17، اي ان يعيد الأمور إلى المواجهة والصدام؟ ومن يقول انّه لن يُستتبع بلقاء آخر يحمل الرقم 19؟ ومن قال انّ الفريق نفسه المتهّم بالعرقلة والتعطيل لن يدخل على خط ضرب المناخات الإيجابية التي ولّدها اللقاء الأخير؟ ومن قال انّ رئيس الجمهورية لم ييأس بعد من محاولات إحراج الحريري لإخراجه؟
لا شك انّ كل الاحتمالات واردة، لاسيما انّ أولوية العهد ضمان مرحلة ما بعد انتهاء ولايته. ولكن لن يكون هناك في نهاية المطاف من مهرب ولا مفرّ من تأليف الحكومة، ولا مهرب ولا مفرّ من التعايش القسري بين عون والحريري، لأنّ عدم التأليف يعني الانفجار، والانفجار ممنوع ومرفوض من الداخل والخارج، والسباق على أشدّه بين الدولار والتأليف. فقد يحاول رئيس الجمهورية شراء الوقت لتمديد كأس التأليف المرّ، إلّا انّه سيضطر في نهاية المطاف إلى التوقيع على مراسيم الحكومة التي سيكون عنوانها الداخلي التعاون الصعب بين عون والحريري، وعنوانها الخارجي مواكبة الحكومة دولياً بالدعم المعنوي حفاظاً على الاستقرار ومنعاً للانفجار والاتكاء على الصدمة الإيجابية للتأليف، في ظلّ دعم مقنّن ومقطّر، يتيح للبنان البقاء مستقراً وعلى قيد الحياة بانتظار التسوية الدولية والأميركية تحديداً مع إيران.