لم يكن ما جرى في الساعات الأخيرة بين قصر بعبدا وبيت الوسط مفاجئاً إلا بالقدر الذي وصل فيه مستوى أداء أركان السلطة التنفيذية إلى هذا الحدّ من تبادل الاتهامات ونشر الوثائق والمسّ بالمواقع الدستورية، فيما تنهار الأوضاع المعيشية والمالية. لكن الخطورة التي انكشف عليها سجال الرئاستين، تتعدّى سؤال الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله عن قدرة حكومة اختصاصيين على مواكبة التحديات التي يقبل عليها لبنان. لأن العطب الذي لحق بعلاقة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون والرئيس المكلف سعد الحريري، إلى حد تناوله رئيس الجمهورية عند باب القصر الجمهوري، في سابقة غير مألوفة تستهدف موقع الرئاسة، من شأنه أيضاً أن يطرح سؤالاً مماثلاً. إذ كيف لحكومة يؤلّفها الحريري أن تواكب التحدّيات المطروحة سياسياً واقتصادياً، حين تبلغ علاقته بعون هذا الحدّ، الذي يذكّر بعلاقتهما السابقة قبل التسوية الرئاسية والهجومات والنعوت والأوصاف التي وصلت إلى المحاكم. وكيف يمكن لحكومة عنوانها اللاثقة بين ركنَيها أن تناقش التدقيق الجنائي ومفاوضات صندوق النقد والسياسة المالية، وتتفق على قانون الانتخاب والانتخابات النيابية المقبلة، بعدما انفجرت العلاقة بينهما على المستوى الشخصي؟ والخطورة أنه كلما استغرقت مرحلة التأليف وقتاً إضافياً، تفاعل الصدام بين الطرفين، مع استنباط وسائل جديدة للهجومات المتبادلة. وهذا المرجّح. فحتى الآن، لم تتطوّر الظروف في المنطقة أو في لبنان، لتتحوّل لحظة تأليف الحكومة، شبيهة بتلك التي كانت قائمة يوم أُلّفت حكومة الرئيس تمام سلام، في ساعات قليلة، لتصبح حكومة إدارة الفراغ الرئاسي. الفكرة الأساسية التي لا تزال حاضرة، هي أن كل القوى السياسية تلعب في الوقت الضائع، في انتظار واشنطن وإيران، مهما علت نبرات الأفرقاء الثلاثة الأساسيين، رئيس الجمهورية والرئيس المكلف وحزب الله. تبعاً لذلك، يصبح انتظار التأليف، وفق الجداول المتبادلة بين بعبدا وبيت الوسط، عبثياً، لأن لا الجداول تصنع حكومات في لبنان ولا شهادات الاختصاص التي وزعت نبذات عن أصحابها. فحتى الآن، لا إفراج داخلياً عن الحكومة، ولا اعتذار للرئيس المكلف، رغم كل الهجومات التي يتعرّض لها، وما يعتبره محاولة بعبدا تطويقه داخلياً ودبلوماسياً.
فالحريري يتمسّك بقراءة سياسية مفادها أن حزب الله لن يكسر الجرّة معه، لاعتبارات الصراع السنّي ــــ الشيعي، رغم رسائل نصر الله الأخيرة له، لكن هذه الرسائل حملت لهجة عتب أشدّ قسوة تجاه حليف الحزب الأساسي أي الرئيس نبيه بري الذي كان أول من ردّ على الحزب بواسطة مكتبه السياسي. أما الحريري، فردّ في المرة الأولى على عون بزيارة قصر بعبدا، وردّ على نصر الله بلقاء مع الحزب، وهو سيردّ في كل مرة إما بالسفر أو بتكرار لازمة صلاحيات رئاسة الحكومة، كي يربح مزيداً من الوقت. قراءة الحريري ومن وراءه، أنّ أيّ مفاوضات أميركية ــــ إيرانية، ليس حول الاتفاق النووي، إنما حول مصالحهما في المنطقة، تحتاج إلى أوراق داخلية لتعزيزها. وخروج الحريري من موقعه رئيساً مكلفاً، سيترجم بإمساك فريق حزب الله والعهد ومعهما رئيس جديد للحكومة موالٍ لهما تماماً، ما يجعل إيران تفاوض من موقع القوة. وجود الحريري يفقد هذه الورقة عنصراً أساسياً فيها، وهذه رسالة يوجّهها الى الخارج، أميركياً وعربياً، بأنه قادر من خلال تكليفه، حتى ولو لم يؤلّف الحكومة، على إبقاء قسم من المنظومة الحالية خارج إطار العهد وحزب الله، رغم كل المآخذ على سياسته المتخبّطة. لكنّ أداء الحريري في الوقت عينه لا يعني قطيعة مع الحزب، أو تماهياً مع خصوم الحزب، وهذا ما ظهر في أدائه الأخير. فالحريري، يخوض معركته في شكل منفرد، وكأنها آخر معاركه السياسية، من دون حلفاء سابقين في قوى 14 آذار، لكنه يعرف أن «الشارع السني» ورقة طيّعة في يده، وخصوصاً مع ازدياد عوامل الفقر.
وهذا تماماً ما يجعل الحزب أيضاً يتريّث في خوض معركة إزاحة الرئيس المكلّف، بخلاف رغبة العهد، في الشكل الذي كان متاحاً سابقاً مع إخراج الحريري من الحكومة لدى وجوده في واشنطن قبل 10 سنوات. لا شك أن الحزب كان إلى ما قبل إطلالة أمينه العام الأخيرة، مرتاحاً أكثر في إمساكه عصا التفاوض من نصفها، ولم يكن مضطرّاً إلى خوض مواجهة مكشوفة في هذا التوقيت الذي تكثر فيه عوامل التضييق المالي والسياسي الخارجي والداخلي، فيما يواجه مرحلة أشهر الانتظار الإقليمي بإمساك الأوراق الداخلية في يده. فهو في المطلق يريد حكومة. لكنه يريد واحدة لا تنفجر عند أول استحقاق مالي وسياسي، ويثق بها عند احتمالات الفراغ الرئاسي، تماماً كما هي رغبة العهد وتياره السياسي. لكن هناك من يقول إن الحزب مرتاح أكثر في الوضعية الراهنة، فلا يضغط للتأليف بكل قوته. فتفعيل حكومة الرئيس حسان دياب بما توفر من إمكانات، مقابل بقاء الحريري، وعدم ترك الأمور الميدانية تفلت في الشارع عبر توتّرات مذهبية، قد يكون اليوم مطلوباً أكثر من أي وقت مضى، لضرورات تتعلّق أيضاً بمصير العلاقة الأميركية الإيرانية المتوقفة، في جانب منها أيضاً، على نتائج الانتخابات الرئاسية الإيرانية. وهذا الأمر لا يتشارك فيه مع العهد وتياره السياسي، لأن حساباتهما مختلفة تماماً عن حسابات المنطقة وهواجسها.