العقل الأميركي لا يستسيغ الإرتجالية ولا مجرَّد الكلام الشفوي، قناعته ترتكز على الأبحاث والدراسات والتقارير وجلسات الحوار القائمة على البحث والعلم والمنطق والمستندات. ومَن لا يعرف هذا العقل على طبيعته هذه فإنَّه يجد صعوبةً في مخاطبته.
أميركا دولةٌ عظمى، مَن يزورها عليه أن يُعدَّ ملفاته جيداً، فوزير خارجيتها مثلاً، يبدأ نهاره بلقاءٍ مع نظيره الفرنسي ثم يليه لقاءٌ، مثلاً، مع نظيرٍ له من آسيا الوسطى أو أميركا الجنوبية، فما لم تكن الملفات بين أيدي مساعديه، وما لم يكن الزائر يحمل ملفاته، فإنَّ اللقاء سواء أكان بالدقائق أم بالساعات، يذهب هدراً.
من السياسيين اللبنانيين الذين أدركوا هذه المعادلة الرئيس الشهيد رفيق الحريري وبعده الرئيس سعد الحريري. زيارة واشنطن تكون مُعدَّة بإتقان:
الملفات ومواضيع البحث والبنود التي يجب إثارتها، فتنتهي الزيارة لكن يبقى منها شيءٌ في العقل الأميركي.
هذا ما حصل بالنسبة إلى الزيارة الحالية للرئيس سعد الحريري لواشنطن، وهي الثانية بعد زيارته للعاصمة الأميركية في كانون الثاني من العام 2011. فإلى اللقاءات المكثفة التي أجراها، كانت له جلسة حوار في ويلسون سنتر في واشنطن، بحضور رئيسة المركز جاين هارمين ورؤساء مؤسسات دراسات ومفكرين وقادة رأي ورؤساء تحرير صحف ومجلات.
ويلسون سنتر هو مركز الأبحاث والدراسات الذي يحمل إسم الرئيس الأميركي الثامن والعشرين والذي أدخل أميركا في الحرب العالمية الأولى، وهذا المركز الذي يحمل إسمه يُركِّز على النزاعات وكيفية حلّها سواء بالدبلوماسية أو بالحرب.
في هذا الجو كانت جلسة الرئيس الحريري في المركز. فجاءت كلمته متماسكة، مترابطة، إستراتيجية، حلل أوضاع المنطقة وترابطها ببعضها البعض، مركِّزاً على أنَّ الإهتمام بزاوية وإهمال زوايا أخرى من شأنه أن يؤدي إلى فوضى عارمة.
يقول الحريري في نقاشه إنَّ المنطقة العربية تواجه اليوم تحديات كبرى، تتغذى من بعضها البعض. بهذا المعنى يكون قد أكَّد لمَن يتابعونه أنَّ ليس هناك إمكانية لفصل الأزمات عن بعضها ولفصل الإهتمامات عن بعضها، فالإهتمام في اليمن والإهمال في لبنان مثلاً، لن يؤدي إلى أيِّ نتيجةٍ إيجابية، وعند هذه النقطة يعطي لنفسه المجال ليدخل إلى الملف اللبناني فيعتبر:
أننا في لبنان نواجه العديد من التحديات، النابعة أساساً من حقيقة وجودنا على خطوط تماس من الحضارات والأديان والمدارس الفكرية والمذاهب والأيديولوجيات والتناقضات. ولهذا السبب تتجلى خلافات المنطقة في كثير من الأحيان في بلدي لبنان. تظل أولويتي الأساسية والوحيدة هي حماية لبنان. أسمع الكثير من الأشخاص في المجتمع الدولي يكررون غالباً وفي كثير من الأحيان، أن لبنان ما يزال في وضع جيد على الرغم من كلِّ ما يجري في المنطقة، على الأقل فهو يشهد بعض الإستقرار النسبي. لكن هذا الإستقرار ليس مستداماً ما لم يتم تعزيز مؤسسات الدولة وإيجاد حلٍّ للحرب في سوريا.
هكذا يكون الرئيس سعد الحريري قد صوَّب البوصلة وقدَّم للذين يقدِّمون الحيثيات لرجال إتخاذ القرار، كلَّ ما يلزم لإعادة وضع لبنان في سُلَّم الأولويات.
لم يقتصر الشرح المسهَب على هذا الأمر، بل إنَّ الرئيس الحريري، وفي معرض النقاش، قدَّم ما يمكن وصفه بالخطوات أو بما يشبه المبادرة، فأعلن بشيءٍ من الحسم إننا لن نسمح أبداً بعودة الحرب الأهلية إلى بلدنا. ولن نلجأ أبداً إلى العنف مهما كان الأمر، على الرغم من أنَّه قد تمَّت مواجهتنا بالعنف والإغتيالات. وقد وقفنا بكلِّ وضوح إلى جانب العدالة والإعتدال ومؤسسات الدولة في مكافحة الإرهاب والتطرف. لكن في حال استمرار الوضع الراهن، فإنَّه سيكون من الصعب على نحو متزايد منع ألسنة اللهب في المنطقة من إشعال حربٍ أهلية في لبنان.
هل من وضوح بعد هذا الوضوح؟