إذا صدقت النيات وسارت الاتصالات والمفاوضات في سياق مرن، فمن المفترض ان تولد الحكومة العتيدة قريباً، وربما خلال ايام، وذلك في ضوء الثغرة التي أحدثتها مبادرة الرئيس سعد الحريري في الجدار الحكومي المسدود.
يجزم معنيون بالتأليف الحكومي، انّ الرئيس المكلّف مصطفى اديب كانت لديه تشكيلة حكومية جاهزة، بعد أسبوع من انتهاء مشاورات التكليف والتأليف، وهو لديه الآن ايضاً تشكيلة جاهزة، لكنّه لم يُطلع احداً عليها بعد ويتهّيب الإعلان عنها، لأنّه يخشى من ان لا تلقى قبولاً لدى هذا الفريق او ذاك، ما يضعه في موقف حرج لا يريد الوصول اليه. فضلاً عن إنّ تهيّبه هذا، يضيف المعنيون بالتأليف، ناجم عمّا سمعه من البعض، خلال استشارات التأليف النيابية غير الملزمة التي أجراها إثر تكليفه. فما سمعه يومذاك، كان نصيحة أُسديت اليه بألّا يبادر الى سماع أي رأي يدعوه الى وضع تشكيلة وزارية، من دون التشاور فيها حجماً وشكلاً ومضموناً واسماءً، مع الكتل والاطراف السياسية التي سمّته في استشارات التكليف المُلزمة، التي أجراها رئيس الجمهورية العماد ميشال عون. وضمن هذه النصيحة، قيل لأديب أيضاً إنّ مجلس الوزراء بعد «إتفاق الطائف» هو «مجلس طائفي»، بمعنى انّه يضمّ ممثلين لجميع الطوائف التي ينصّ الدستور في المادة 95 منه على تمثيلها بصورة عادلة في مجلس الوزراء، وأنّ العدالة هنا تفرض على الرئيس المكلّف تأليف الحكومة، الوقوف على رأي هذه الطوائف في اختيار ممثليها في السلطة التنفيذية.
لكن يبدو، انّ ما أخّر أديب عن تأليف الحكومة حتى الآن هو اخذه بنصائح آخرين، بينهم رؤساء الحكومة السابقون، بأن يبادر «حسب الدستور» وفق ما قالوا، الى تأليف حكومته بالتنسيق مع رئيس الجمهورية فقط، وهو الأمر الذي لم يُقدم عليه هؤلاء الرؤساء السابقون، عندما شكّلوا حكوماتهم، بل فعلوا العكس، إذ أنّهم أخذوا وقتهم بالتأليف لمدد زمنية طويلة قاربت نحو السنة في بعض الحكومات، وحرصوا على مشاورة جميع الذين تمّ تمثيلهم من طوائف وقوى سياسية في هذه الحكومات.
ولذلك، فإنّ مبادرة الحريري، على رغم ما يعتريها من التباسات، قد تكون فتحت الطريق أمام الرئيس المكلّف لتأليف حكومة يقبل بها الجميع، على رغم نصيحة الحريري له بأن يسمّي هو وزيراً لوزارة المال، التي أيّد الحريري ان تكون من حصّة الطائفة الشيعية، نزولاً عند تمسّك الثنائي الشيعي بها، وذلك بعدما كان يعارض هذا الامر ومعه رؤساء الحكومة السابقون، الذين اعتبروا مبادرته «شخصية» وأنّهم «غير مُلزمين» بها. والواقع أنّ مبادرة الحريري حرّكت مياه التأليف الراكدة، ولكن ليس بالضرورة ان يختار اديب شخصياً وزير المال الشيعي من دون تشاور مع الثنائي، الذي يُقال إنّه قدّم له او سيقدّم لائحة من 10 اسماء يختار احدها لهذه الوزارة السيادية بامتياز.
ويعلّق قطب سياسي على موقف رؤساء الحكومة السابقين المعارض لمبادرة الحريري، فيؤكّد ان لا صحة لما يسوّقون له من انّ المبادرة الفرنسية اعطتهم صلاحية تسمية رئيس الحكومة المكلّف ووزير المال واجراء المداورة الشاملة بالوزارات، ومن ضمنها وزارة المال، بحيث لا تكون للطائفة الشيعية التي تتمسّك بها لأسباب ميثاقية تتعلق بالتوازن في السلطة التنفيذية. ويقول هذا القطب، إنّ المبادرة الفرنسية لا علاقة لها بهذا التفصيل على اهميته ولم تمنح أي جهة صلاحية ترشيح رئيس الحكومة المكلّف، وإنّما تناولت خريطة طريق وخطة اصلاحية لإنقاذ لبنان من الانهيار السياسي والمالي والاقتصادي، برعاية فرنسية مباشرة، تتحوّل شيئاً فشيئاً رعاية دولية، من خلال المؤتمرات التي يعتزم الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون الدعوة اليها لمساعدة لبنان، ابتداء من منتصف الشهر المقبل.
ويذهب هذا القطب السياسي الى وصف تصرّف رؤساء الحكومة السابقين بأنّهم كالذي «يدير تفليسة»، محاولاً الاستحصال على ما أمكن لتخفيف خسائره، خصوصاً انّ الواقع اللبناني بكل تفاعلاته وتطوراته منذ ما قبل 17 تشرين وما بعده والى الآن، قد تخطّى هؤلاء وكثيرين من القيادات والقوى السياسية، التي لم تدرك بعد انّها بنحو او بآخر، مباشر وغير مباشر، تتحمّل المسؤولية عما آل اليه لبنان من انهيارعلى كل المستويات.
على انّ القطب نفسه يبدي تفاؤلاً حذراً ازاء مصير التأليف، لخشيته من بروز بعض المواقف التي تنطوي على مطالب معينة في التشكيلة الوزارية. وهنا تتجّه الانظار الى ما سيكون عليه موقف رئيس الجمهورية، في ضوء عزوف «التيار الوطني الحر» عن المشاركة او عن تسمية وزراء فيها. إذ قد تبرز للرئيس مطالب معينة، من مثل ان تكون له حصّة وزارية من ثلاثة وزراء أو أكثر في الحكومة، على رغم من انّ «اتفاق الطائف» والدستور الذي انبثق منه، لا يتيح لرئيس الدولة، «الحَكَم» بين الجميع، ان تكون له حصّة وزارية في السلطة التنفيذية التي يرأس جلساتها، من دون ان يشارك في التصويت، التزاماً لدوره وموقعه الحَكَمي بين الجميع، والذي يسمّيه الدستور بأنّه «رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن والقائد الاعلى للقوات المسلحة الخاضعة لسلطة مجلس الوزراء».
ويسود في بعض الاوساط المعنية بالتأليف أعتقاد، في انّ الثنائي الشيعي، وبعد التسليم بمطلبه ان تكون وزارة المال من حصّة الطائفة الشيعية، سيتعاطى بمرونة مع بقية حصّتها من الوزارات، من حيث نوعيتها واسماء الوزراء الذين سيتولونها، ما سيشكّل عاملاً مساعداً للرئيس المكلّف على الاسراع في إنجاز تشكيلته الوزارية العتيدة.
ويبقى انّ الايام المقبلة ستكون حافلة بالاتصالات والمشاورات لتسريع ولادة الحكومة، على رغم بعض المواقف الاقليمية والدولية المستجدة، والتي يرى معنيون انّها قد تؤثر سلباً على هذه العملية الدستورية ولكنها لن تُعطلها، خصوصا وأنّ الجانب الفرنسي ناشط بشدة في مختلف الاتجاهات الداخلية والخارجية لتسهيل انجاز هذا الاستحقاق الحكومي، وبعدما كانت باريس أبلغت الى المعنيين قبل ايام تفهمّها لمطلب الثنائي الشيعي في شأن وزارة المال. ويُقال، انّ هذا التفهّم الفرنسي هو ما دفع الحريري الى اعلان مبادرته، استجابة لإرادة باريس التي وصفتها بأنّها « مبادرة شجاعة» من جهة، وخدمة لمصلحته المستقبلية، وطموحه بالعودة الى السرايا الحكومية في مرحلة لاحقة.