لم يكن من السهل العبور بجلسة مجلس الوزراء (أول من أمس) على هذا النحو من الهدوء الذي خيم علي الأجواء، على رغم محاولة وزراء القوات اللبنانية» توتير الأجواء على خلفية المطالبة بتوضيحات في شأن ما جرى في جرود سلسلة جبال لبنان الشرقية و»الصفقة التي تمت مع «داعش»، ودعوة الوزير محمد فنيش («حزب الله»)س الى مناقشة معركتي الجرود (عرسال ورأس بعلبك والقاع) من أساسها وليس فقط من نتائجها وما آلت اليه..
نجح رئيس الحكومة سعد الحريري منذ اللحظة الأولى في ان يبعد مجلس الوزراء عن المناكفات والمساجلات، وهي مسألة ليست هينة على الاطلاق، والمجلس لا يتكون من فريق واحد بل من مجموعة من مكونات سياسية متباينة في القراءات والولاءات والمصالح والارتباطات الداخلية والخارجية.. كما نجح في نزع فتيل أي صدام او مواجهة على خلفية معارك الجرود في شقيها، عرسال التي نفذها «حزب الله» ضد «النصرة» وابعدها الى الداخل السوري ورأس بعلبك والقاع والفاكهة التي نفذها الجيش اللبناني بحرفية قتالية لافتة ومعززة بقرار سياسي وبغطاء من رئيسي الجمهورية والحكومة والتفاف شعبي غير مسبوق على هذه الدرجة العالية، كما وعلى المستوى الدولي..
استجاب الجميع لدعوة الرئيس الحريري، فمضت الجلسة التي التأمت في السراي الحكومي بهدوء لافت وعبرت «قطوعات» عديدة سياسية وغير سياسية بسلاسة لم يكن في يد أحد اختراقها.. هناك، من يعتقد ان الرئيس الحريري، وبعد عودته من زيارته الناجحة بامتياز لفرنسا، أجرى سسلة اتصالات بشأن جلسة الحكومة بعد غياب لنحو اسبوعين، وكان التجاوب معه واضحاً لجهة تمريرها من دون أية اشكالات، لا على المستوى السياسي، ولا على المستوى الأمني ولا على المستوى الاقتصادي وهو، كما سائر الآخرين، يعرفون ان لبنان يمر، بمرحلة دقيقة، في ضوء ما يحصل على مستوى المنطقة، ولا بد معها من التأكيد على الثوابت التي قامت عليها هذه الحكومة. فكانت الكلمة التي استهل بها الرئيس الحريري الجلسة، واضحة الأسس والأهداف المباشرة والبعيدة على المستوى الوطني ومادة تصح لأن تكون «ميثاقاً وطنياً» يبنى عليه بناء الدولة – ويعيد الحياة الى البيان الوزاري لحكومة استعادة الثقة الذي بصم عليه الجميع ولم يترددوا لحظة في خرقه في العديد من المناسبات.
لم يكن الرئيس الحريري أمام خيارات، وهو الذي يقرر خطورة ما ستؤول اليه الأوضاع، فها هو استجاب لمطالب البعض من قبل، ومن بعد التطورات الأخيرة الناشئة عن معارك الجرود التي افضت في النهاية الى «بزوغ فجر الجرود»..
التباين بين الافرقاء اللبنانيين واضح ولا حاجة لبراهين لكن الواجب الوطني والمصلحة الوطنية دفعا الرئيس الحريري الى دعوة الافرقاء كافة لابعاد ذلك ونزع فتيل أي صدام، أيا كانت الخلفيات، خصوصاً معارك الجرود التي برأيه يجب ان تكون مناسبة لبناء وتعزيز الوحدة الوطنية اللبنانية، لا مادة تضاف الى سائر مواد الانقسامات السياسية على خلفية:
– ان التحديات الداخلية والخارجية واحدة..
– وان الإرهاب واحد، أياً كان مصدره، وهو الارهاب الذي بات عابراً لحدود المذاهب والطوائف والدول والقارات..
– وان أي انقسام في الداخل اللبناني سيتعود الى نتائج بالغة الخطورة، وخدمة لا تقدر بثمن للارهابيين، من «دواعش» «وغير دواعش»، وفي الطليعة الارهاب الاسرائيلي الممتزج بعقيدة يشربها الاسرائيليون مع حليب أمهاتهم..
– ان أي انقسام، او استجابة لنداء الداعين الى «المساءلات» والعاملين على توتير الأجواء، لن يكون فيه رابح وخاسر، بل الجميع فيه خاسرون..
لم يكن الرئيس الحريري يتسلى، او يحاول ان يقدم دليلاً جديداً على التزامه بالأسس الوطنية التي قامت عليها الحكومة وشكلت صمام أمان للكيان اللبناني عندما دعا الجميع الى الابتعاد عن المزايدات السياسية الصغيرة (او حتى الكبيرة)، لأن المزايدات، أياً كانت ستؤدي الى سجالات ومناكفات «وأخذ وعطاء»، لا توفر خدمة للوطن ولا تخدم مصلحة اللبنانيين، جميع اللبنانيين، وهم أمام امتحان بالغ الأهمية، بصرف النظر عن الخطابات والمواقف «الشعبوية» التي يعتمدها البعض تمهيداً للانتخابات النيابية في ايار المقبل.. وقد أثبتت هذه «الشعبوية» أنها غير صالحة لبناء دولة وحماية وطن، وقد وفرت مادة لتعزيز العصبيات والانقسامات..
لبنان ليس جزيرة منفصلة عن محيطها القومي والعربي والاقليمي.. ومع هذا فإن من الخطأ – بل الخطيئة، الاندفاع في البحث عن «محور» ينتمي اليه هذا الفريق او ذاك.. وتأسيساً على هذا، كانت مناشدة الحريري الجميع «الابتعاد عن توتير الأجواء مع الأصدقاء، خصوصاً الأشقاء» حيث ان لبنان عربي الولاء والانتماء والهوية.. ومصلحته بعدم تعريض مصالح آلاف اللبنانيين لاخطار.
ان البحث عن حماية لبنان، وتوفير مقومات الصمود والقوة والمناعة له، لا يكون برفع سقف المزايدات الكلامية، التي من المؤكد أنه ستكون لها انعكاسات بالغة الخطورة على اللبنانيين كافة، مقيمين ومغتربين ومنتشرين في العديد من الدول العربية.. وحسناً أعاد الرئيس الحريري الكلام مذكراً بسياسة النأي بالنفس عن صراعات المنطقة وبأن «لبنان ليس جزءاً من أي محور (لا الايراني، ولا غيره)، بل هو جزء فاعل من التحالف الدولي لمحاربة الارهاب ويقوم بدوره ويتحمل مسؤولياته في حماية الشعب والحدود والسيادة، من خلال قواه العسكرية والأمنية، التي أحيت عرس شهادة الشهداء يوم أمس، في انتصار لا يمكن القبول بأية هوية له، سوى أنه انتصار وطني يقوم على استراتيجية تعتمد على الجيش وسائر المؤسسات الأمنية، ولا تدير ظهرها لما قدمته المقاومة – المقاومات على مدى عقود في مواجهة اعداء لبنان الحقيقيين وتحرير الارض واستعادة السيادة والكرامة.. خصوصاً وان المنطقة على أبواب مرحلة جديدة، لم تتضح معالمها النهائية تستلد الى تسويات للأزمات التي تفجرت حروباً لم تبق دولة بعيدة عنها خدمة لمصالحها؟!