على عجل، لبّى الرئيس سعد الحريري دعوة السعودية لزيارتها. فللوقت قيمتُه مع إقتراب انتهاء مهلة تقديم الترشيحات للإنتخابات النيابية في 6 آذار الجاري (ضمناً). وباقٍ وقت قصير لإتمام الحريري وسائر القوى المعنية ترشيحاتهم في الدوائر المناسبة. فالسعوديون يريدون جَمْعَ القوى التي لا تدور في فلك «حزب الله»، لعلّ ذلك يمنعه من الاستئثار بالقرار في المجلس النيابي المقبل.
لا يريد الحريري «تسليم البلد» لـ«حزب الله». هو يردِّد ذلك دائماً وأكّده في مهرجان 14 شباط الأخير بقوله إنه سيخوض الانتخابات ضد «الحزب». وطبيعي أن يلتزم الحريري هذا الموقف، لا لأنه ينسجم مع منطلقات تيار «المستقبل» فحسب، بل لأنّ الرياض لا يمكن أن تتحمَّل أيَّ تحالف بينه وبين «الحزب».
يتردّد أنّ الموفد السعودي نزار العلولا عندما طلب من الحريري أن يتحالف مع كل قوى 14 آذار والقوى المستقلّة والنائب وليد جنبلاط، ردّ عليه رئيس الحكومة بشرحٍ تقني للتعقيدات في هذا الملف، حيث كل القوى تتداخل في ما بينها في الانتخابات: 8 و14 والمستقلون.
وما يقوله الحريري واقعي. فإذا رفض التحالف مع «التيار الوطني الحر» في الانتخابات، سيردّ عليه رئيس الجمهورية بعدم تسميته لرئاسة الحكومة المقبلة. وهذه خسارة كبرى للحريري.
وأما إذا تحالف مع «التيار» فسيكون عملياً قد تعاون مع حلفاء «حزب الله» المسيحيين وساهم في تقويتهم في المجلس، على حساب القوى المسيحية الحليفة في 14 آذار، والتي تحتاج إلى دعم «المستقبل» في عدد من الدوائر.
ولكن، في المقابل، سيكون هناك تعاون بين قوى مسيحية متباينة التوجّهات السياسية حيث ترى مصلحة في ذلك. فـ«القوات» والكتائب والمستقلون قد يتعاونون مع «التيار الوطني الحرّ» أو «المردة» أو سواهما استنسابياً، حيث تلتقي المصالح. وفي هذه الحال، ستكون قوى 14 آذار المسيحية قد ساهمت أيضاً في دعم وصول حلفاء «الحزب» إلى المجلس.
فوق ذلك، إنّ تعاون أيّ من قوى 14 آذار، و«المستقبل» خصوصاً، أو المستقلين، أو جنبلاط، مع مرشحي الرئيس نبيه بري، هو تعاون مباشر مع مرشحي «حزب الله»، لأنّ الطرفين الشيعيين يتقاسمان خريطة انتخابية واحدة في كل الدوائر، بناءً على حسابات التعاون المحتمل مع قوى أخرى.
إذاً، لعبة الانتخابات أكثر تعقيداً من مجرد «وعدٍ» من الحريري بمواجهة «حزب الله». وكل القوى «فايتة ببعضها» في الانتخابات. وأما المراهنة على تغييرات أو انقلابات تحالفية بعد الانتخابات، تؤدّي إلى إضعاف «حزب الله»، فقد تبدو أيضاً من باب التوهّم.
فالقوى التي تعجز اليوم عن مغادرة نهج التسوية الذي يديره «حزب الله»، والتي لم تفعل فيها صدمة «الاستقالة» الحريرية، كيف ستكون قادرة على «التحرّر» بعد الانتخابات؟ وإلى أيّ قوة ستستند لتحقيق هذا الهدف؟
هناك مَن يقول للحريري: «ولكنك أنت المسؤول عن التسوية التي أوصلتك إلى السراي مقابل وصول حليف «حزب الله» إلى رئاسة الجمهورية، والتي اضطرت جعجع إلى الالتحاق بها خوفاً من تعرّضه للعزل والاستفراد».
هنا يمتلك الحريري مبرّرات أيضاً: «حزب الله» كان على مدى السنوات الأخيرة يزيد حضوره في النزاعات الإقليمية، ويرسّخ نفوذَه أكثر فأكثر بسبب الفراغ الرئاسي وبقائي خارج البلد وتضعضع «المستقبل» وسائر قوى 14 آذار. وعودتي إلى السراي وتعويم موقع تيار «المستقبل» وتَولّي قوى 14 آذار وزارات أساسية من شأنه الحدّ من الخلل في التوازن لمصلحة «حزب الله» في المؤسسات.
في السعودية، ليس لدى الحريري ما يقوله في المملكة سوى ذاك الذي قاله في خلال أزمة «الاستقالة»: مضطرٌ إلى الواقعية… ما دام نفوذ إيران الإقليمي هو الذي يمدّ «حزب الله» بالقوة في لبنان. ومن العبث مطالبة اللبنانيين أنفسهم بخوض حرب أهلية كارثية تحت شعار إنهاء نفوذ «حزب الله». والأحرى أن تعمل القوى الدولية والإقليمية على إنهاء التوسّع الإيراني في دول المنطقة كلها، وعندئذٍ ينتهي نفوذ «الحزب» تلقائياً».
أساساً، في تشرين الثاني الفائت، خرج الحريري من السعودية، بوساطة أميركية وفرنسية ومصرية، بمقدار وافٍ من الاقتناع المشترك بين كل الأطراف بهذا المنطق. ولذلك، ليس مستغرباً ما قاله جعجع بعد لقائه الموفد الملكي السعودي نزار العلولا: «علاقتي بالسعودية ليست أقوى من علاقة الحريري بها».
والقول، بعد أزمة «استقالة» الحريري في الرياض، إنّ السعودية غاضبة منه إلى حدّ استعدادها للتنصّل منه أو التنكّر له أو معاقبته، ليس دقيقاً. ولم يصدر عن الطرفين، منذ الأزمة، ما يوحي برغبة أيٍّ منهما في تعميق الأزمة.
وأجواء الزيارة الحريرية للمملكة لا توحي بالتشنّج، لا المُعلَن ولا المُستتر. ووفق المتابعين، هي زيارة ناجحة جداً بالمفهوم الواقعي، لأنّ كلّاً من الطرفين يتفهّم الآخر.
وحتى إشعار آخر، ليس هناك من زعيم سنّي يحظى بتعاطف السعودية أكثر من الحريري. ومن المفارقات، في الوقت عينه، أن لا زعيم سنّياً يفضّله «حزب الله» على الحريري. وهذا التقاطع النادر على الزعامة الحريرية – من زوايا متناقضة – يمنح رئيس الحكومة قوة المفاوضة والاستمرار، ويسهّل له إمرار قطوع الانتخابات وتحالفاتها المعقّدة والخوض في كل المراحل اللاحقة.