من أبرز العلامات الفارقة التي تطبع العلاقة بين الرئيس سعد الحريري والنائب السابق وليد جنبلاط انّها متقلبة ومتلونة، تأخذ شكل المرحلة التي تمرّ فيها او المصلحة التي ترتبط بها، من دون أن تستقرّ على ثوابت صلبة مضادّة للتحوّلات.
صار كل من سعد الحريري ووليد جنبلاط يفهم على الآخر، ويجيد فك شيفرته السياسية. لا الخصومة بينهما تصل إلى حدود اللاعودة ولا التفاهمات الموضعية تبلغ سقف التحالف المتماسك.
وهكذا، يمكن للمراقب أن يلاحظ كيف انّ الرجلين اختلفا ثم اتفقا مرات كثيرة خلال السنوات الماضية، وتقلّبا على صفيح ساخن تارة وبارد طوراً، من دون أي حرج، إلى درجة انّ الأمر كاد يصبح «تقليداً سياسياً».
وعندما تذهب القواعد الشعبية للحريري وجنبلاط بعيداً في الانفعال والتوتر عقب نشوب اي نزاع، يكون الرجلان في الوقت نفسه حريصين على عدم إقفال خط الرجعة، وتحين الفرصة او اللحظة المؤاتية لإعادة وصل ما انقطع، على قاعدة خدمة المصالح المتقاطعة التي تبقى فوق اي اعتبار.
حين يرفع جنبلاط او الحريري نبرته السياسية ضد الآخر، كما حصل اخيراً في شأن المبادرة الفرنسية والملف الحكومي، يعرف كلاهما ضمناً انّ هذه عاصفة ما قبل الهدوء، ومحاولة لتحسين شروط التفاوض قبل معاودة الحوار بينهما.
انّها علاقة مركّبة، تختزن الشيء وضدّه، وتجمع الشتاء والربيع السياسيين في فصل واحد. لا زواج ولا انفصال، بل مرتبة في الوسط تلبّي احتياجات الجانبين وتداري حساباتهما، كلما اقتضت الضرورة.
من الواضح ان ليس في مقدور الحريري ان يتخلّى كلياً عن جنبلاط مهما قسى عليه، كما فعل في اطلالته الاعلامية الأخيرة، وكذلك ليس في مقدور رئيس الحزب «التقدمي الاشتراكي» ان يتحرّر من رئيس «تيار المستقبل» مهما تجاهله، كما شعر جنبلاط مع بدايات ترشيح الحريري لنفسه الى رئاسة الحكومة.
واذا كان ما يفرّق الرجلين على أكثر من مستوى ليس بسيطاً، الّا انّ ما يجمعهما في المقابل ليس هامشياً، بدءاً من النوستالجيا المرتبطة بالموقف الذي اتخذه جنبلاط بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وصولاً الى ضرورات تبادل «الخدمات السياسية» التي تبيح المحظورات، في نظام طائفي يرتكز على المحاصصة والتسويات الهجينة.
ولعلّ معادلة «الباب الدوار» التي تحكم علاقة كليمنصو – بيت الوسط، سرت بوضوح على تجربة اشتباكهما الحكومي في الأسبوع الماضي.
لم يهضم رئيس «الاشتراكي» محاولة فرض أمر واقع عليه، ولم يستسغ ان يرسل له الحريري وفداً من «تيار المستقبل» بدل ان يتواصل معه مباشرة، فرفض استقبال الوفد واعترض على طريقة تسويق رئيس «المستقبل» لترشيحه، لكن الأهم انّه عرض خلف «الدفوع الشكلية» جوهر مطالبه المتعلقة بالحصّة الدرزية في الحكومة المقبلة.
وجنبلاط الذي يعرف من أين وكيف تؤكل الكتف، أجاد في ترسيم حدود المقايضة المضمرة بين تسمية الحريري والحصول على ضمانات وزارية، مستفيداً من حاجة الحريري الى أصوات «اللقاء الديموقراطي» في الاستشارات الملزمة، وصوت جنبلاط في معادلة التوازنات السياسية والميثاقية، إذ لو امتنع رئيس «الاشتراكي» عن دعم الحريري، لكان ترشيحه سيفتقر الى الميثاقية الدرزية بعد المسيحية (كون النائب طلال أرسلان يعارض تكليفه أيضاً)، الامر الذي من شأنه ان يحرجه ويضعه في موقع صعب.
التقط الحريري، الخبير في تكتيكات جنبلاط، خيط رسالة كليمنصو المدروسة، فبادر الى الاتصال به والوقوف عند خاطره، متجاوزاً مفاعيل «السجال الهاتفي» الذي ترتب على اتصال جنبلاط به من باريس، ومحتوياً المضمون الشديد اللهجة الذي عكسه الظهور الاعلامي لرئيس «الاشتراكي» عشية خميس الاستشارات المؤجّلة.
حسبها الحريري بدقة، وادرك انّ هامش المناورة ضيّق امامه، بفعل الوقت القصير الذي لا يسمح كثيراً بالتكتيكات التفاوضية من جهة، واستعادة جنبلاط بين ليلة وضحاها دور بيضة القبان، في استحقاق تسمية الرئيس المكلّف تحديدًا من جهة أخرى.
وعليه، قرّر الحريري ان يختصر المراحل وان يسدّد لجنبلاط ضريبة «القيمة المضافة» السياسية في مقابل ان يسمّيه، وذلك عبر طمأنته الى المقاربة التي سيعتمدها، بعد تكليفه، حيال التمثيل الدرزي في الحكومة المقبلة.
مرة أخرى، اثبت الحريري وجنبلاط قدرتهما على إدارة نزاعاتهما، التي مهما انتفخت نتيجة تعارضات ظرفية، تعود في نهاية المطاف إلى حجمها الطبيعي، انطلاقاً من حقيقة، انّ اللعبة السياسية في لبنان محكومة بالمساومات والمقايضات الكفيلة بتخفيض السقوف وتبريد الرؤوس.
ولكن، هل بتعظ المناصرون الذين غالباً ما يكونون ملكيين اكثر من ملوك الاحزاب والطوائف، ويندفعون ابعد منهم في الحماسة والخصومة؟