أمّا وقد رفع رئيس الحكومة السابق سعد الحريري السقوف إلى أعلاها، فارضاً معادلة “أنا أو المجهول”، فقد بات “سؤال المليون” على الشكل الآتي: من هنا إلى أين؟
في كل ما قاله في مقابلته التلفزيونية، بدا وكأنّه يلعب هذه الجولة على طريقة “الصولد”. مرّة واحدة وأخيرة. إمّا يربح الرئاسة ويعيد من بعدها معالجة كل الهزائم السياسية والمعنوية التي تعرض لها، وإمّا يخسر كل شيء، ومعه يخسر البلد المحاولة الأخيرة… قبل الانهيار الشامل أو “جهنم”، كما وصفها رئيس الجمهورية ميشال عون. يدرك الحريري أنّ الجميع يسير على حافة الهاوية بما في ذلك المبادرة الفرنسية، ولذلك اختار منطق المغامرة على المعادلات الحسابية المضمونة النتائج. قدّم نفسه على طبق الفرصة الأخيرة المتاحة… وإلا الظلام الشامل.
في كل ما فعله، أقفل باب الترشيحات على نفسه. لا مكان من بعده لأي من رفاقه في نادي رؤساء الحكومات السابقين ولا حتى من خارجه. صحيح أنّه لم يقلها لكن سلوكه يؤكد أنّ فشله في إقناع الآخرين، وتحديداً الثنائي الشيعي ورئاسة الجمهورية ومعها رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل، بخريطة الطريق التي طرحها لتوليه رئاسة الحكومة، يعني حكماً أنّ من سيأتي من بعده ستكون طريقه مقفلة. الأرجح أنّ اندفاعة رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي وسعيه لاقتناص لحظة تردد الحريري، هي التي دفعت الأخير إلى القفز قدماً للقوطبة وتجاوز القطب الطرابلسي، ويأخذ المحاولة في صدره.
بهذه الروحية، سيبدأ رئيس “تيار المستقبل” مشاوراته اليوم، وهذه المرة تسبق التكليف والتأليف معاً. البداية من قصر بعبدا حيث يلتقي رئيس الجمهورية، ومن ثم عين التينة ليلتقي رئيس مجلس النواب نبيه بري. حتى اللحظة، لا يزال الغموض يحيط بمضامين ما سيتأبطه رئيس الحكومة السابق. أي من القوى السياسية لا يعرف ما اذا كان سيسمح بإحداث كوة مشاورات معها لتبادل الأفكار حول تركيبة حكومته ومكوناتها وبيانها الوزراي وغيرها من التفاصيل، أم سيتصرف على طريقة “الحاكم بأمره” تحت عنوان حكومة اختصاصيين يتولى تسميتهم جميعاً. أسوة بما فرضه على مصطفى أديب والذي انتهى به المطاف عائداً إلى برلين.
يصير هذا التساؤل مشروعاً في ضوء التصلّب الذي بدا على الحريري في مقابلته. إذ مقابل المغامرة الانتحارية التي يخوضها، يحاول احداث نوع من التوازن من خلال التشدد في مواقفه لئلا يُتهم بالخضوع و”الانبطاح”، وهذا ما قد يجعل من مهمته صعبة جداً إن لم نقل مستحيلة. الدعم الفرنسي وحده قد يكون عاملاً مساعداً اذا ما تبيّن أنّ احتمال التأليف لم يعد يحتاج إلى تدخّل إلهيّ!
ما يزيد من صعوبة مهمته، هو أنّ الحريري لم يوفر أحداً في مقابلته. أصابت سهامه القريبين والأبعدين. وها هي “القوات” تنكفئ سريعاً تاركة الساحة المسيحية لجبران باسيل كي يستعيد طقوس الغنج والدلال، ربطاً بحاجة الحريري إلى شريك مسيحي يغطي حكومته، وهذا ما يفسّر البيان العالي اللجهة الذي سطره المجلس السياسي لـ”التيار الوطني الحر” يوم السبت. ولو أنّ هناك من يقنعه أنّ توقيع رئيس الجمهورية على التشكيلة الحكومية يؤمّن الميثاقية المسيحية، كما أنّ هناك مجموعة من النواب المسيحيين، خارج “التيار” و”القوات” قد تصوّت له.
أما رئيس “الحزب التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط فيستعد لتوضيح الإلتباس الذي أثاره الحريري حول موقفه من إسناد حقيبة المال للثنائي الشيعي. الثابت، هو أنّ الزعيم الدرزي لن يقف على جبهة الاعتراض على المبادرة الفرنسية واذا ما نجح الحريري في إعادة إحيائها، فلن يكون الحزب “التقدمي” عاملاً معرقلاً. لا بل يسجّل لسيد المختارة أنّه حاول جاهداً خلال الفترة الماضية تسهيل المسعى الفرنسي ورفع الألغام من أمامه، وهذا ما حاول القيام به مع الحريري في الاتصال الذي وصفه رئيس الحكومة السابق بأنّه “ساخن”.
صحيح أنّ خطوط التواصل بين بيت الوسط والمختارة، والتي يتولاها عادة وائل أبو فاعور، لم تشهد أي اتصال منذ ليل الخميس الماضي، إلّا أنّ جنبلاط لن يكون في وارد التكفل بنسف مبادرة الحريري طالما أنها محمية بالحراك الفرنسي. وهنا جوهر موقفه. وفي المطلق يفترض أن يساهم اللقاءان اللذان سيعقدهما الحريري اليوم في توضيح ما سيحمله، ليبنى على الشيء مقتضاه.