قد يكون قَدَر آل الحريري دائماً أن يراهنوا على الوقت. مِن رفيق الحريري إلى سعد الحريري، قصة انتظار لا تنتهي. أو بالأحرى، ينتهي العمر ولا تنتهي!
يقول سياسي ظريف: يصعب أن تبرم اتفاقاً اليوم مع الرئيس سعد الحريري لسبب بسيط، وهو: ليس هناك “سعد الحريري” واحدٌ حالياً. لذلك، عبثاً تحاول الاتفاق معه!
1 – هناك سعد الحريري الفرنسي، أخُ إيمانويل ماكرون خليفة جاك شيراك في حمل الأمانة الحريرية. هو الذي كان يودّ أن يواصل دعمه بباريس 3 و4 و5… من دون شروط إصلاحية قاسية كتلك المفروضة اليوم. وهو الذي أنقذه من أزمة تشرين الثاني 2017 وعاد به إلى السراي.
هذا الحريري هو الأقرب إلى “سعد الحريري الأصلي”. وبما أنّ الفرنسي اليوم يفضّل إنهاء الأزمة على الطريقة اللبنانية تقريباً، أي “لا يموت الديب ولا يفنى الغنم”، فإنّ الحريري كذلك يفضّل إنهاء الملف “بسلام”: حكومة برئاسته، أعضاؤها تكنوقراط، يرضى عنها الجميع… والمسارعة إلى تطويق الانهيار المتكامل.
2 – هناك سعد الحريري الشريك في صفقة 2016، مع عون وبري و”حزب الله” وآخرين. وهذا هو الذي تعرّض للضغط الشعبي، وللتشجيع الأميركي والسعودي، لكي يستقيل ويقلب الطاولة ويُسقِط التركيبة.
وهذا الحريري هو الذي يستقتل “حزب الله” لإبقائه في السراي. وهو الذي يريد الثأر من حلفائه الـ14 آذاريين الذين يتهمهم بأنهم ساهموا في التسبّب بأزمته قبل عامين.
ومشكلة “سعد الحريري الشريك” أنه جزء من تركيبة سياسية مشبوهة بالفساد، من جهة، وبالرضوخ لإرادة “حزب الله”، من جهة أخرى. وهذا أمر يحاول الفرار منه قدر الإمكان.
3 – هناك سعد الحريري السعودي – الأميركي الذي تبلّغَ مراراً أنّ عليه القيام بمهمّة حسّاسة، وهي الحدّ من نفوذ “حزب الله” بالتعاون مع قوى 14 آذار، بقدر ما يستطيع القيام بذلك. وهذا الحريري هو الذي يتعرّض له “حزب الله” بالحملات السياسية، وهو الذي لا يمنحه الثقة في الاستشارات الملزمة.
فموقف “الحزب” يصعب جداً تفسيره في السياسة: هو لا يريد الاستغناء عن الحريري في رئاسة الحكومة بأي ثمن… لكنه لا يسمّيه في الاستشارات لضرورات أخرى!
4 – هناك سعد الحريري المفقود، أي وريث الرئيس رفيق الحريري، الذي لا يريد إلا بناء زعامة سنّية لبنانية على مستوى البلد ككل. وهذا هو حلم الحريري الإبن كما كان حلم الحريري الأب.
بناءً على هذه الصورة، يتصارع الحريري مع نفسه قبل أن يتصارع مع الآخرين. ويريد تظهير نفسه في واحدة من الشخصيات الأربع لكي يرتاح ويدرك طريقه، لكن ذلك ليس في يده. فالأمر يحتاج إلى إنضاج قد يكون طويلاً ومريراً.
الفرنسيون الذين انطلقوا في مبادرة جديدة إزاء لبنان يشجعونه على أن يكون في صفِّهم. ولكن الأميركيين الذين ما وفّروا لحظة إلا أبلغوه بمواقفهم، هم الأقوى في النهاية ولا يمكنه إهمال مطالبهم، خصوصاً عندما يلتقون مع السعوديين.
وعلى الأرض، هو يتمرَّغ في التركيبة التي أعادته إلى السراي عام 2016. وهو يريد أن يترك شعرة معاوية بينه وبين الشركاء. فالتجارب السابقة علَّمته أنّ الرهانات الخارجية ليست مضمونة، وأنّ المعادلة الداخلية غالباً ما فرضت نفسها في نهاية المطاف.
لذلك، في تقدير العارفين، الحريري ضائع حالياً. وهو يراهن مجدداً على الوقت. فالمعشوق المفضّل لديه هو الوقت. وفي أي حال، اعتاد اللبنانيون إجمالاً أن يعيشوا لعبة الوقت. والرئيس رفيق الحريري نفسه راهن طويلاً على الوقت منذ مطلع التسعينات: التسوية في الشرق الأوسط آتية ولبنان يجب أن يستعدّ لها ويواكبها.
بعدما غادر الحريري السلطة وخرج من البلد، عام 2011، راهن على أنّ المسألة لن تطول، خصوصاً بعد اندلاع الانتفاضة (الحرب) في سوريا واقتناع كثيرين بأنّ الرئيس بشّار الأسد سيسقط ومعه سيضعف الحلفاء في بيروت، فيعود التوازن إلى لبنان وتنشأ حكومة يعود من خلالها إلى البلد والسلطة، لكن ذلك لم يحدث.
وعام 2016، عاد بتركيبة سياسية راهن فيها أيضاً على أنّ التسوية السورية قيد الولادة بعد التدخل الروسي، ومعها سيزدهر لبنان وينكفئ نفوذ “حزب الله” ويشارك اللبنانيون في إعمار سوريا. ولكن، بعد 3 سنوات، لم يتحقق الحلّ السياسي هناك، وما زال لبنان يحصد تداعيات الأزمة السورية لا ثمار الإعمار.
واليوم، يراهن الحريري على الوقت مجدداً. لكنّ المشكلة التي يعيشها تكمن في أنّ الوقت المتاح له كان يقاس في السابق بالسنوات، وأما اليوم فيقاس بالأيام. فقد جرى استنفاد الوقت إلى حدّ بعيد. وصار الرجل مرغماً على الاختيار سريعاً. وهذا ما ليس قادراً على القيام به.
على رغم ذلك، الحريري “لا يرفع العشرة”. ما دامت اللعبة مستمرة وكل الاحتمالات واردة. وهو يفكر: هل يلتقط كرة النار ويطفئها فيكسب لقب البطولة ويثبت حضوره، أم يتركها لتنطفئ في أيدي آخرين، ثم يعود هو للقطاف “على البارد”؟ ولكن… هل العودة ستكون سهلة آنذاك؟