يلعب القدر مرة جديدة لعبته مع رئيس الحكومة سعد الحريري. وللوقت هنا مغزاه السياسي. لم تكد تمرّ أيام قليلة على اقفال آخر منابره الاعلامية، “القناة الزرقاء”، حتى طرق “وجع الرأس” باب بيت الوسط. فيما هو صار من دون “شاشة” ومن دون “مانشيت” تخوضان معاركه. ومع ذلك، لا يبدو أنّ “رأسه” يؤلمه.
تجاوزت الـ”نيويورك تايمز” كل “الفضائح” المرتكبة يومياً على لسان سيد “البيت الأبيض” دونالد ترامب في حروبه المتعددة، سواء على الجبهة الصينية، أو الإيرانية، لتثير قضية الـ15.3 مليون دولار التي يقال إنّ الحريري دفعها لعارضة أزياء جنوب أفريقية وفق الصحيفة الأميركية.
غسل كاتب المقال يديه من تهمة دفعِه من جهة ما، لنبش الغبار عن الرواية ورميها بوجه رئيس الحكومة اللبنانية الذي يواجه أصلاً اختلالاً في توازن الاستقرار السياسي بفعل الخضّة النقدية التي تتصدى للعملة الوطنية والحراك الشعبي. ربط الصحافي الأميركي توقيت نشر “السكوب” بالمادة التي توافرت عليه في هذه اللحظة بالذات وحتمت اخراجها إلى العلن. لا أكثر.
هكذا، اخترقت تفاصيل القصة العابرة للمحيطات، فوضى الأرقام والمؤشرات الاقتصادية التي تشغل بال اللبنانيين منذ مدّة، وتسللت إلى أجندة التساؤلات من باب البحث عن مغزى سياسي لتوقيت دخول قصة الـ15.3 مليون دولار إلى يومياتهم المثقلة بالديون. قلّة نادرة سألت عن حقيقة المبلغ المدفوع، واندفع الجميع تقريباً باتجاه فكّ لغز الجهة الكامنة وراء الكشف عن اسم “الثري العربي”.
مقابل اكتفاء الحريري بالتعليق على الأحداث الأخيرة تأكيداً أنه “مهما قالوا أو كتبوا أو فعلوا سأستمر في العمل ولن أتوقف”، بدا التشويق الناجم عن تحميل وزير الداخلية السابق نهاد المشنوق المسؤولية غير المباشرة لهذه الضجّة، موازياً لحبكة القصة بذاتها. فجأة انتشرت “بوستات” عبر مواقع التواصل الاجتماعي توجّه أصابع الاتهام إلى النائب البيروتي الذي صارت مسافة الخلاف بينه وبين من كانت مرجعيته السياسية، جلية للعيان، وحكايتها على السطح… ومرشّحة للتفاقم.
اشتكى الحريري من حملة تستهدفه، من دون أن يضع خطاً فاصلاً بين ما أتاه من جنوب أفريقيا على متن الصحافة الأميركية، وبين ما يأتيه من الداخل على متن الشراكة مع “التيار الوطني الحر”. تزامن الحدثين، لم يكن مربكاً أبداً. تكاد المرة الأولى التي لا يجد الحريري نفسه مضطراً لتشغيل دفاعاته الاعلامية. حتى أقصى خصومه، لم يتناولوا تفاصيل الرواية تعليقاً، خلافاً لما كان يحصل معه في السابق حين كان يتحول إلى دائرة استهداف مركّزة، ولأسباب أقل أهمية. حتى النائب زياد أسود الذي كال الانتقادات على الحريرية السياسية وسياساتها الاقتصادية، لم يقرب من المسألة الشخصية. يقول عارفو الرجل، إنّها التسوية الرئاسية “المثلثة الأضلاع”، التي جعلته بمنأى عن “الضرب تحت الزنار”.
هكذا، بدا التلويح بدور خفي للمشنوق، أشبه بشحمة على فطيرة رئيس الحكومة، وضعت على طاولته من دون أن يكلف نفسه عناء البحث عنها: في الوقت الذي ارتفع فيه منسوب التوتر مع رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل فيما الحريري يحاذر الدفع بالرئاسة الأولى ومعها فريقها السياسي إلى خندق الخصومة، صارت الحاجة إلى خصم جديد أكثر من ملحّة.
“الباسيلية” لم تعد بالنسبة الى الحريري من “محور الشرّ” الممكن تحميله كل غضب جمهوره. لا يريدها أصلاً في هذا المقام، بعدما صارت الرئاسة شريكاً ثابتاً، وها هو بالأمس يجدد تأكيد علاقة الاحترام التي تجمعه برئيس الجمهورية ميشال عون نافياً وجود أزمة ثقة. ولهذا يمكن للمشنوق أن يكون الخصم المناسب الذي يسمح بشدّ عصب الجمهور المستقبلي.
أقفل الحريري اذنيه، تاركاً للاتهام ان يجول ويصول على الجدران الافتراضية من دون أي توضيح أو تصويب، أو إثبات بالدليل. حساسيته تجاه النائب البيروتي صارت عالية، وفي كل مرة يخرج فيها الأخير عن صمته، يزداد منسوب الحساسية. ولو أنّ المشنوق بيّن الأمور بشكل واضح: “من يسعى إلى الترشّح إلى رئاسة الحكومة عليه أن يستحوذ أوّلاً على موافقته (الحريري)، ومن يعارضه سياسياً لا يكون طالباً للموافقة ولا مرشّحاً للمنصب”.
في المقابل، يتصرف المشنوق على قاعدة أنّ في محيط رئيس الحكومة من يصبّ الزيت على النار مستغلاً تلك الحادثة لتصفية حسابات قديمة. لكن “زركه” في زاوية الاتهام، لن يمنعه أبداً من اكمال تحضيراته لحركته المقبلة. الخلاف بينه وبين رئيس “تيار المستقبل”، والذي صار عمره سنتين، وفق رزنامة وزير الداخلية السابق، لم يعد محصوراً بالجدران المغلقة. ولذا لم يتردد المشنوق في وصفه بـ”العلني” كونه ذا طابع سياسي، ما يعني أنّه لا حاجة إلى كتمانه أو الخجل منه.