«أراك عصي الدمع شيمتك الصبر… أما للهوى نهي عليك ولا أمر
بلى أنا مشتاق وعندي لوعة … ولكن مثلي لا يُذاع له سرّ
سيذكرني قومي إذا جدّ جدّهم … وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر»
في فترة التمهيد لاغتيال رفيق الحريري، وفي خضم حملة إعلامية شارك فيها أتباع النظام السوري في لبنان لكيل الشتائم والتهم، فاتحت، معاتباً، صديقاً مشتركاً بيني وبين سليمان فرنجية، حول أسباب هجوم الأخير على الرئيس الشهيد، على الرغم من كل مؤشرات حسن النية منه تجاه فرنجية ومنطقة زغرتا بالذات.
بعد أيام عاد صديقي وقال: «إنّ حلف البيك مع الرئيس بشار الأسد له الأولوية المطلقة، وهو على هذا الأساس لا يمكنه اليوم إلّا أن يكون في مواجهة مع الحريري، لأنّ لدى القيادة السورية انطباعاً أنّه غير صادق في علاقته معها، وهذا يعني أنّه يجب أن يسخّر كل قواه وعلاقاته لخدمة أهداف سوريا الأسد، وأن لا تكون لديه علاقات «مشبوهة» إلّا ضمن التوجيهات المعطاة إليه، عدا عن ذلك فهو في خانة الأعداء…».
لم أصارح يومها الرئيس الشهيد بما سمعته، واعتبرته جزءاً من حملة رمي الحجارة، يمارسها بعض الصبية المارقين على شجرة لا تهزّها الريح. على كلٍ، لم يكن رفيق الحريري غافلاً عن هذه الأمور، فمنذ اليوم الأول لتولّيه المسؤولية في لبنان كان عالماً بالتصنيف «الأسدي» للبشر، فهم إما أتباع وإما أعداء، يعني لا يوجد أصدقاء، وبالطبع فلا يوجد اجتهاد أو رأي آخر ولا مشاريع أو صداقات خارج إطار «الصف الواحد» و»الرؤية الواحدة» التي وضعها «الرئيس الخالد».
بالطبع، لم يكن رفيق الحريري مؤمناً لا بخلود ولا بإلهام ولا بصحة توجّهات حافظ الأسد ولا بمنفعتها لسوريا ولبنان ولا لقضية فلسطين. فهذه السياسة كانت بأقل ما يمكن وصفها أنّها فاشلة، إن لم تكن خرقاء، وبعضنا كان يتمادى فيقول إنّها متواطئة مع أعداء سوريا ولبنان وفلسطين.
ويكفي أن نستطلع سياسة الأسد لنرى أنّ سوريا خسرت كل معاركها مع العدو، وتبخّرت كل آمال النمو وداس النظام على رقاب الناس، ولبنان كان خارجاً من حرب مدمّرة، كان لسياسة حافظ الأسد الجزء الأهم في إذكاء نارها، أما فلسطين فقد أمعن حافظ الأسد في قتل وتشريد قياداتها وتشتيت قواها.
ومع ذلك، حاول الرئيس الشهيد السعي في المباشر أولاً مع حافظ الأسد. فقد كانت المنطقة يومها في سباق محموم نحو السلام بعد مؤتمر مدريد للسلام عام 1992. يومها طرح قضية تطوير النظام الاقتصادي في سوريا، ليتلاءم مع المرحلة المقبلة، وإخراجه من مستنقع الحماية الاقتصادية، لإفساح المجال أمام المبادرات الفردية. فكانت البداية بدخول المصارف الخاصة إلى سوريا.
على الرغم من أنّ خبرته السياسية في ذلك الوقت كانت في بداياتها، ولكن رفيق الحريري كان قد وصل نفسه بشبكة من العلاقات الدولية والصداقات الشخصية، مع مروحة واسعة من رجال السياسة والاقتصاد الدوليين، وقد استمرت هذه العلاقات وتطوّرت وتوسعت خلال السنوات اللاحقة، متخطّية بمسافات بعيدة الخطوط الحمر المسموح بها من نظام حافظ الأسد ووريثه بشار.
صحيح أنّ رفيق الحريري حاول دائماً السعي إلى إعطاء فرص حسن نية للنظام السوري من خلال المسايرة، والتي تخطّت المعقول والمقبول أحياناً، ومن خلال إدخال هذا النظام في دينامية دولية واقتصادية أحياناً أخرى، ولكنه كان دائماً يحاول إتقاء شرّ المواجهة المفتوحة، لعلمه بقدرة نظام الأسد وأتباعه على تدمير كل ما بناه برموش العيون. لذلك فقد انصبّ على البناء وعلى اغتنام فرص فسحات قليلة من الاستقرار ليستغفل فيها منظومة الشر الغبي والأرعن.
لكن جهود رفيق الحريري كانت أبعد بكثير مما هو معروف، فقد كان جزءاً من مجهود دولي مضاد لمنطق «صدام الحضارات» أو «حتمية الحروب». هذا الفريق كان يسعى إلى إرساء تفاهمات بين البشر، مبنية على المنفعة المشتركة التي سيأتي بها حتماً السلام والاستقرار، وتعود بفوائدها في شكل أساسي على الشعوب الفقيرة، أو التي أفقرتها معاناتها من النزاعات والحروب. كان ذلك كافياً ليستفز المنظومة القائمة أساساً على منطق وجود عدو دائم وحروب طويلة لا نهاية لها. وهي المنظومة التي بنت وجودها على استباحة الحرّيات الشخصية وكرامة الفرد وتدمير الازدهار وسحق النمو، استعداداً لـ»المعركة» التي يقودها قائد ملهم نابع من خلف الأساطير.
هذه الحالة هي التي تتحكّم اليوم والأمس بمنظومة الممانعة من جهة، ومن جهة أخرى بالحكم في إسرائيل، الذي يستخدم الأساطير أيضاً لتسويغ الاعتداء المستمر على الشعب الفلسطيني بحجة الخطر الدائم على الشعب اليهودي.
رفيق الحريري كان يعلم خطورة الموقف الذي وضع نفسه فيه، لذلك فقد تمنّع عن الإفصاح عمّا سعى إليه حتى إلى أقرب المقرّبين، فمن جهة كان هو يعلم بصعوبة قدرة كثيرين على تجاوز الشعارات الخشبية التي حكمت عقول حتى أكثر الناس علماً وثقافة، لذلك فقد «استعان على قضاء حاجته بالكتمان». وكان أيضاً حذراً من أن يدفع آخرين إلى مواضع الخطر، إن هم اقتنعوا بأفكاره وحاولوا الترويج لها. ولأجل ذلك أيضاً، تفادى إنشاء حزب حتى لا تتداخل الشعبوية مع التخطيط والعمل الهادئ، وحتى لا يعرّض المحازبين للأخطار.
لأجل هذا كله، فقد كان رفيق الحريري منطوياً على ذاته.