ألغى الرئيس رفيق الحريري (عن قصد أو غير قصد) جميع القيادات والبيوتات السياسية السُنّية على امتداد لبنان، ووضعَ رجلاً في البور (تمثيل السُنّة في الحُكم) ورجلاً في الفلاحة (محاولة الانتشار على صعيد الوطن)، وغلب على نهجه مع جمهوره طابع التوظيف وتقديم مختلف أنواع الخدمات بأريحيّة وسخاء.
ورغم استئثاره بآحادية التمثيل السُنّي إلا أنه تجنّب أن يُصنّف زعيماً للسُنّة فحسب وان يتقوقع تحت هذا التصنيف، رغبة بأن يكون عابراً للمذاهب والطوائف وان يكون زعيماَ وطنياً (أو الزعيم الوطني الأول)، ولم ينجح في مسعاه لأن ممثلي المذاهب الأخرى تصدّوا لمحاولاته.
ولا بّد من التطرق إلى أن مشروع «سوليدير» سبّب شرخاً بين جمهور من البيارتة والرئيس رفيق الحريري لاعتقادهم بانه كان يُمكن البحث عن صيغة مختلفة للإعمار لا يكون صُلبها الإكراه واغتصاب أملاك الناس، وفقاً لوجهة نظرهم.
لا شكّ أن الرئيس رفيق الحريري كان قامة لبنانيّة وإقليميّة ودوليّة كبيرة، وأن من خطّط ونفّذ عمليّة اغتياله كان يستهدف إزاحة شخصيّة لها وزنها وتأثيرها في مُجريات الأمور على صعيد المنطقة، والتمهيد لمخطط سوداوي وخطير.
استشهد الرئيس رفيق الحريري رحمه الله… استُبعد بهاء الحريري، وأتى سعد الحريري، شباب وحيوية وكاريزما وصفاء قلب ونيّة، لكن دون أي خبرة أو حنكة سياسيّة، مع بطء في تعلم غور دهاليز وألاعيب السياسة المحليّة القذرة.
واقع الأمر أنه فجأة، وبدون أي إعداد مُسبق، وربما دون أي تطلع أو رغبة في العمل السياسيّ، ورث سعد الحريري حملاً شعبيّاّ ومذهبياً ومالياً ثقيلاً، وإرثٌاً سياسيّاً محليّاً وإقليميّاً ودوليّاً ضخماً له تبعاته.
للأسف، تخلى باكراً عن مستشاري والده، وعن الحرس القديم، ومجموعة العشرين، وتخلى لاحقاً عن صقور التيّار.
وتواكب هذا مع اغتيال قوى الشرّ تباعاً لكوكبة من الشخصيات الوازنة في مختلف المجالات، كانت تدور في فلك «تيار المستقبل»، أو صديقة صدوقة ناصحة له.
بالمقابل استمع الرئيس سعد الحريري الى ابني عمّته نادر واحمد الحريري ومجموعة ممن لم يُحسنوا الاستقراء والتحليل والتخطيط والرؤيوية، وقدّم (بناء على نصائح من تقدّم ذكرهم) الكثير من التنازلات التي أثبتت الأيام عدم جدواها (كي لا نقول أكثر)، فزاد الشرخ بين «تيار المستقبل» وقاعدته السُنّية، وفي الوقت ذاته لم يكتسب التيار أي قاعدة من المذاهب الأخرى، بل تباعدَ مع كثر بسبب تمسّكه بالعلاقة الوطيدة مع التيار الوطنيّ الحُر.
تدريجياً صار معظم مناصري «تيار المستقبل» من متلقي الإعاشات والخدمات فإذا قُطعت عنهم انقطعوا عن التيار، فتقلص جمهور التيار الذي تكاد تقتصر عقيدته ونهجه على التعلق بنوستالجيا وذكرى زعيمه الشهيد، وترديد مقولة الإعمار والإنجازات و«البلد ماشي»…
ثم توالت الأخطاء والضربات الغادرة الماليّة والسياسيّة وحتى العائليّة، وانهارت شركاته واستثماراته الخاصة، وكذلك تهاوت مؤسسات التيار الاعلاميّة والتربويّة والخدماتيّة، وتعرّض الرئيس سعد الحريري لسابقة مريرة هي الأولى في التاريخ الديبلوماسيّ، وهي اعتقال وإهانة رئيس حكومة أثناء زيارته لدولة أخرى!
يبدو أن الرجل الذي قدّم مختلف أنواع التضحيات وعانى الأمرّين قد طفح كيله وهو «لا مع ستّي بخير ولا مع سيدي بخير»، وأنه موجود تحت نوع من «الإقامة المشروطة المبرمجة» في الإمارات ضمن خطّة لإعادة هيكلة نشاطه التجاري وجدولة ديونه والتمهيد لبداية جديدة في حياته، وبالتالي هو الآن بصدد البحث عن تصوّر وصيغة لمستقبل التركة السياسيّة لوالده، وربما يكون أحد الحلول إيكالها لمن يُمكنه الاضطلاع بعبئها.
هذه الخلاصة لا يُمكن أن تفي حُقبة عقدين من الزمان حفّها، وهي ليست شماتة أو تصفية حساب أو استغلال ظرف، فرأيي في الحريرية السياسية و«تيار المستقبل» معروف ومنشور في الصحف منذ العام 2003.
أعلن الرئيس سعد الحريري تعليق عمله في الحياة السياسية وعدم الترشح للانتخابات النيابية وعدم التقدم بترشيحات باسم «تيار المستقبل»، وسيكون لهذا القرار آثار وأصداء وترددات كثيرة.
وبغض النظر، فإن المطلوب إيجاد دور وصيغة تجعل استمراريّة «تيار المستقبل» على الساحة السياسيّة ممكنة وفاعلة.
ختاماً، سواء كان الرئيس سعد الحريري مُحقاً أو مُقصّراً أو مظلوماً أو ضحيّة، فإن سُنّة لبنان في ورطة وليسوا بخير!
والحديث يطول وقد يكون له بقيّة…