يُسجّل لسعد الحريري أنه كان وحده القادر على المبادرة حيث لا يجرؤ الآخرون، لكنه يسّجل عليه أنه انقلب على تراث زرعه بنفسه في نفوس شارعه ومحبيه ومريديه، قبل أن يعود فيطلب منهم نسيان زرعه، في خطاب «مؤثر وبلا أخطاء» استمر لـ40 دقيقة، وقدم فيه أسبابه الموجبة لترشيح ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية، مستعيناً خاصة بالرئيس الشهيد، ليزيد من تأثيره على الحضور.
عندما رشّح الحريري سليمان فرنجية بدا ذلك بمثابة الانتحار. لكن بعد سنة، تبين أن الانتحار صار عادة. هو يقول لم يعد لديه شيء ليخسره. وأقرب نواب كتلته يعتقد أنه خسر كل شيء. هو يقول إنه يحمي إرث والده السياسي بعدما ضيّع إرثه المالي، وأقرب نواب كتلته يقول إنه فرّط بآخر ما تبقى من إرث والده. كثرٌ، في بيت الوسط، قالوا كما يسير الرئيس نسير، وكثر غيرهم لم يصدقوا أن الرئيس سار فعلاً بهذا الاتجاه. لم يكادوا يستفيقون من صدمة ترشيحه لفرنجية، فإذ بهم يتلقون صدمة أشد وقعاً.
«بقي خيار واحد: العماد ميشال عون». هكذا «بكل بساطة»، قال الساعي إلى إنقاذ البلد من الحرب الأهلية إنه لم يبق في سلّته الرئاسية سوى ميشال عون، الذي جمعهما الحوار خلف هدف مشترك «اسمه الدولة والنظام». اكتشف الحريري أن عون «لا يريد للدولة والنظام أن يسقطا». واكتشف أيضا أنه بخطوته هذه يحمي «الطائف، بعدما بات السؤال ينتشر، أو يُنشر، علنا وسرّا، حول فشل النظام، فشل الطائف، وضرورة فرط النظام وإعادة تركيبه».
والأهم أنه اكتشف في الرجل الوحيد الذي حارب «الطائف»، أنه أكثر القادرين على حمايته. فيما الأخير كان قد وضع، في الآونة الأخيرة، معادلة واضحة مفادها أن الرد على ضرب الميثاقية لن يكون سوى بنسف «الطائف» أو بحمله إلى رئاسة الجمهورية، حيث يمكنه هناك إزالة الاختلال الذي كرّسه الاتفاق الذي أنهى الحرب الأهلية.
أفرط الحريري في صراحته، ورفض الاختباء خلف إصبعه، لكنه لم يصل إلى حد المصارحة بحاجته الشخصية إلى العودة إلى رئاسة الحكومة.
أقر بأنه يقوم بمخاطرة سياسية كبرى، لكنه أكد أنه «مستعدّ لأن أخاطر بنفسي وبشعبيّتي وبمستقبلي السياسي ألف مرّة لأحميكم جميعا، ولست مستعدّا لأخاطر مرة واحدة بأي واحد منكم لأحمي نفسي أو شعبيّتي أو مستقبلي السياسي». التصفيق كان حاداً، لكن الخطاب ظل ناقصاً، حتى بالنسبة لأولئك الذين يريد أن يخاطر بنفسه لأجلهم. كان ينقصه أن يصارحهم بأن السلطة هي الملاذ الأخير، لحماية ما بقي من إرث رفيق الحريري السياسي والمالي، لكنه لم يفعل.
نعم لا يريد الطرفان أو كل الأطراف السياسية أن تسقط الدولة. لكن منذ عودة عون إلى لبنان لم يسجّل عليه أنه يتقاسم مع الحريري النظرة نفسها للدولة. حتى مؤيدو «الجنرال» من خارج الاصطفاف العوني، أرادوه رئيساً لأنهم وجدوا فيه النموذج الوحيد القادر على مواجهة الحريرية السياسية. علماً أن مشكلة عون لم تكن مع الحريري فحسب. نبيه بري كان أحد العوائق التي واجهها العونيون في سبيل «الإصلاح والتغيير». وإذا عفا الله عما مضى في زيارة بيت الوسط، فإن العلاقات المستقبليّة لـ «العونيين» مع بري يفترض أن تنسيهم خلافاتهم معه أيضاً، ولا سيما منها النفطية والكهربائيّة.
وعليه، ماذا بقي فعلياً من العونية سوى رئاسة الجمهورية؟ قد يكون من المبكر الإجابة عن هذا السؤال، لكن ما يشاع عن الاتفاقات التي عقدت بين الطرفين لا يطمئن.
كل النقاش لا يلغي حقيقة واحدة: كان ميشال عون و «حزب الله» على حق. منذ اللحظة الأولى للشغور. طرح عون نفسه مرشحاً وحيداً للرئاسة، وأيده «حزب الله». لا عون استسلم ولا الرهانات على موقف مضمر لـ «الحزب» نجحت.
لسنتين بدا عون كمن يعيش في الوهم، وبدا «حزب الله» كمن يزيد من غرقه. لم يكن أكثر المتفائلين يتوقع أن يكسر «القوات» و «المستقبل» الاصطفاف القائم. كانا أشد المعارضين لعون وأعنفهم، فيما كان الأخير متكلاً على دعم «حزب الله» وسليمان فرنجية المعلن له، وعلى دعم مفترض من بري. كل شيء انقلب رأساً على عقب أمس، إلا التحالف بين «حزب الله» و «التيار».
في البيت الفخم المجبول بعبق التاريخ القديم وبرائحة ما بقي من وادي أبو جميل، كانت الأنظار مركزة على أعضاء كتلة «المستقبل». من يحضر منهم ومن يغيب. فؤاد السنيورة كان أبرز الحاضرين، إلى جانب فريد مكاري. حضرا لدعم رئيس «المستقبل»، لكن ذلك لا يعني تعديلاً في موقفهما الرافض لانتخاب عون، على ما أعلنا بعد انتهاء الخطاب.
القاعة الصغيرة نسبياً حيث صُف 224 كرسياً، كانت ممتلئة عن بكرة أبيها. النواب في الصفوف الأولى، باستثناء هادي حبيش، الذي فضّل الجلوس في الصفوف الأخيرة. ومن بين 33 نائباً يمثلون كتلة «المستقبل»، غاب 7 نواب: محمد قباني، معين المرعبي، غازي يوسف، نضال طعمة، عقاب صقر، أحمد فتفت وعمار حوري. والأخيران فضّلا التعبير عن موقفهما الرافض لخيار الحريري، فور انتهاء كلمته، فيما غياب البقية لم يعن بالضرورة رفضهم انتخاب عون.
نحو ساعة فصلت بين انتهاء المؤتمر وحضور ميشال عون، قضاها عدد من النواب يتسامرون مع الصحافيين، مذكّرين بأن «صوت النائب ملكه وحده».
ظهر الحريري على باب منزله. بدا كأن عون لن يتأخر.. ففضّل صاحب الدار تضييع الوقت القليل بالتقاط الصور مع المصورين والصحافيين. لم يكمل جولته على الجميع، دخلت سيارة «سي أر في» زيتية، ترجّل منها عون وجبران باسيل. لقاء رباعي (مع نادر الحريري) ثم ثنائي، تلاه مؤتمر صحافي لعون. قبل أيام من انتخابه رئيساً، مد يده للجميع. بدا هادئاً، وقال: «لا اتفاقات ثنائية أو ثلاثية أو رباعية، بل هناك اتفاق واحد على ادارة شؤون البلاد». وفي طريقه إلى عين التينة سبقته الرسالة إلى بري. «لم نتفق مع الحريري بالصدفة، فنحن تحاورنا مرات عدة من قبل، وفي هذه المرة نضجت الأمور أكثر». لكن بري سمع أيضاً «عبر الحوار لا أحد يخسر، بل كلنا نربح ولبنان يربح لأن النتيجة للجميع». فهل سأله «لماذا إذاً انسحبت من الحوار؟».
انتهت الزيارة سريعاً. خرج بعدها عون ليقول: «من الواجب إطلاع الرئيس بري على تطورات الملف الرئاسي، وتفاهمنا حول الموضوع، واحتسينا فنجان شاي والجو كان جيدا ونحن نطلب دعم بري لكن نحترم حرية قراره».
بدا جلياً أن الهدوء الرئاسي الذي أظهره في بيت الوسط لم يكمل طريقه إلى عين التينة، فيما نقل عن بري قوله إنه «في هذا اللقاء سمعت منه وسمع مني، والاختلاف لا يفسد في الود قضية». تواصل عون مع وليد جنبلاط أيضاً، واتفقا على لقاء خلال 48 ساعة، فيما لم يشأ الحريري إنهاء نهاره الطويل والصعب، إلا بزيارة ضريح والده وضريح الشهيد وسام الحسن.