كما في استشهاده قبل ١١ عاماً، أطلق الرئيس الشهيد رفيق الحريري شرارة الحركة الاستقلالية، كان لا بد للرئيس سعد الحريري أن يستعين بالذكرى، لتشكل عودته الى بيروت تثبيتاً مباشراً للمواقف التي عكف على إعلانها منذ تفجر الصراع الايراني – السعودي، وتورط ” حزب الله” في المستنقع السوري، ومذ وُصِمَت مبادرته لترشيح النائب سليمان فرنجية بأنها تخلٍ عن الحلفاء. فنجح في خطاب مدروس ومتماسك في إزالة اللغط والالتباس حول مبادرته الرئاسية، واستعاد جمهوره، وشد عصبه مثبتا أن الحريرية السياسية لم تنته، وان لا مكان لزرع الشكوك والشروخ داخل تياره. حشر الحلفاء كما الخصوم في الملف الرئاسي بكشفه بعض خبايا تحركات المرشحين، مضيقاً الخيارات بين مرشحي بكركي، باستثناء مرشحه سليمان فرنجية.
لم يكن رفيق الحريري في حاجة إلى الوقوف مكان نجله من على منصة البيال ليدعو قوى ١٤ آذار إلى تجاوز تبايناتها، فذكراه الحادية عشرة التي حلت أمس وسط حال من الوهن والتفكك أصابت أقطاب الحركة الاستقلالية، كانت كفيلة بدفع الجميع الى النزول والمشاركة.
هكذا كانت حال رئيس “القوات اللبنانية” سمير جعجع الذي أضفى حضوره تأكيدا على تمسك قوى ١٤ آذار بثوابت ثورة الأرز. وهكذا كانت ايضا حال الوزير أشرف ريفي الذي أرخت مشاركته ارتياحاً في الاوساط المستقبلية بأن الحريري الشهيد يبقى فوق كل الاعتبارات والسقف الذي تحتكم تحته كل الخلافات والحسابات.
وإذا كان الحريري الابن أعاد التجديد على الثوابت السياسية التي التزمها في الشأن الاقليمي كما في الملفات الداخلية وفي مقدمها الاستحقاق الرئاسي، مؤكدا عدم تراجعه عن مبادرته حيال فرنجية، من دون ان يذهب بعيدا في تحدي الحلفاء عبر تبني ترشيحه علنا، فإن دعوته الصادقة إلى قوى ١٤ آذار لتجاوز تبايناتها وإجراء مراجعة داخلية لن تكون كافية ما لم تقترن بخطوات عملية تعزز هذا المسار، وبرغبة مماثلة لدى الحلفاء في ملاقاة الحريري على الضفة الثانية من الطريق.
قد تشكل الصورة الجامعة لأقطاب الحركة الاستقلالية التي دعا الحريري حلفاءه لالتقاطها معا، خطوة أولى تسحب من يد الفريق الخصم، الغارق بدوره في حال من التشكيك والتفكك، هدية مجانية التي كان قدمها إليه جعجع بترشيحه العماد ميشال عون للرئاسة، او تلك التي قدمها إليه ايضا ريفي بصدامه الأخير مع الحريري، لكن هذه الصورة وعلى أهميتها ورمزيتها، لن تغير في واقع التباينات التي برزت اخيراً بين فريق 14 آذار نتيجة تراكم أخطاء وتباعد فرضته ظروف قسرية وتطورات خارجية مرتبطة بتطور المشهد الاقليمي، مما أثر في وحدة هذا الفريق وتماسكه.
على المقلب الرئاسي، نجح الحريري في حشر جعجع عندما ذكره بترشيحه للرئيس أمين الجميل، أو بتأخره ٢٨ عاماً في إتمام المصالحة المسيحية، مع ما كانت لتوفره على البلاد لو حصلت قبلاً. كما حشره في ترشيحه لعون، خصوصاً ان ثمة معلومات تشير الى ان جعجع كان وعد الأخير في تعطيل نصاب الجلسة الماضية، اذا سلكت الجلسة طريق الانتخاب.
ولم يتخل الحريري عن ترشيح فرنجية، وإن لم يسمه، بل وضعه في مقدم المرشحين، محرجا بكركي في خياراتها بين الأقطاب الأربعة الذين سمتهم او اختيار مرشح من خارجهم.
وعلى مقلب الخصوم، حشر الحريري ” حزب الله”، دافعا به نحو المجلس النيابي بعدما دعاه مع كل القوى الاخرى للنزول الى المجلس وانتخاب رئيس ينهي الفراغ.
يدرك الحريري جيدا ان مرشح “حزب الله” هو الفراغ، وهو بدعوته هذه، رمى في مرمى الآخرين، ليفتح البلاد على مشهد سياسي جديد يؤكد فيه ان غيابه عن لبنان لا يجعله يفقد موقعه لاعباً أكبر وأساسياً، لا يمكن تجاوزه!