يسعى الرئيس سعد الحريري، وهو على أبواب الاستشارات النيابية الملزمة، لتشكيل حكومة جديدة، الى ان تكون هذه الحكومة، حكومة اصلاحات حقيقية في بنية الدولة اللبنانية وسائر اداراتها، وقد عمَّ الفساد والرشاوى وهدر المال العام، وبات على كل شفة ولسان.. وقد كانت خطوته، أواخر الاسبوع الماضي داخل «تيار المستقبل» الذي يرأسه، رسالة الى كل من يعنيهم الأمر، بأن لا محرمات فوق رأس أي أحد، في عملية المحاسبة والتطهير والاصلاح، في الانتفاضة التي أطلقها، وطالت أقرب المقربين اليه ومنه، من الذين كان يعتقد بأنهم «معصومون» وبأنهم «ثابتون وراسخون في مواقعهم..» وبأن أحداً لا يمكن ان يوجه تهمة اليهم او يحاسبهم وينال منهم، فكيف اذا بلغت حد الاجراءات التنفيذية؟!
في قناعة الغالبية الساحقة من متابعي ما حدث داخل «التيار الازرق» اواخر الاسبوع الماضي، لم يكن قراراً سهلاً على الرئيس الحريري، او عادياً يمكن العبور من فوقه عبور الكرام.. خصوصاً وأنه لم يجد سبيلاً للمحاسبة غير ذلك، وهو كان بمثابة محاكمة، واصدار أحكام بحق كل الذين أخلوا بأدوارهم في استحقاق وطني كبير وبالغ الأهمية، ومفصلي، كالانتخابات النيابية، التي شهدت خروقات لم تمر بسلام، ومن دون تداعيات، على «تيار المستقبل»، وهي خروقات لم يكن من المتوقع ان تحصل.. فكان قرار الرئيس الحريري رسالة في أكثر من اتجاه، ولم تشفع صلة الرحم والقربى، حتى مع ابن عمه نادر الحريري، الذي شملته الحركة التصحيحية فقبلت استقالته مع «شكر من القلب»..
لن يمر ما حصل من دون تداعيات في العديد من الاوساط والمتربصين بالرئيس الحريري.. خصوصاً وان الاجراءات التي اتخذها تركت سيلاً من الاسئلة والتساؤلات، بعيداً عن وصف البعض لها بأنها «رغبة في احداث صدمة»، خصوصاً أكثر، انها قد تكون المرة الاولى تحصل داخل القوى السياسية والاحزاب والتيارات، ويقوم رئيسها على اجراءات اصلاحية من هذا النوع، وعلى هذا القدر من الأهمية، وعلى هذا القدر من السرعة.. ومن يتابع ما يقوله قياديون في احزاب وتيارات وقوى أخرى، يدرك عظمة هذا الاجراء الذي اتخذه الرئيس سعد الحريري، كما ويدرك أهمية ان يصبح قاعدة او مثالاً لدى سائر او العديد من القوى السياسية الأخرى.. ما يشجع على التسليم للرئيس الحريري بأنه المبادر الأول في عملية الانجازات التصحيحية غير المسبوقة، ما قد ينسحب لاحقاً على ادارات الدولة..
وليس من شك أيضاً في أن ما فعله الحريري لم يكن في حسبان أي أحد، وهو الذي يمضي في طريق «المصالحة حتى العظم» مع اللبنانيين، سائر اللبنانيين، من دون تمييز بين فئة وفئة، بين طائفة وطائفة، بين مذهب وآخر، ومنطقة وأخرى، وتعزيز الثقة، متكلاً في ذلك على مساعديه ومؤيديه ومناصريه، الى ان اكتشف «نقطة الضعف» او «الخلل» في ماكينته الانتخابية التي لم تستوعب جيداً هذه الدينامية غير المسبوقة على أرض الواقع..
ليس من شك في ان الرئيس الحريري سجل في هذا شجاعة غير مسبوقة، وموضوعية لافتة، ووضع مصلحة «التيار» فوق مصلحة الافراد، طالما ان «التيار» هو تعبير عن تطلعات اللبنانيين وأمانيهم والحفاظ على حقوقهم.. ليكون درساً لسائر القوى السياسية..
من أسف ان البعض راح في تأويل ما حصل بعيداً عن الواقع وقد ربط ذلك بايحاءات و»معطيات خارجية».. لا دليل لها ولا براهين.. وأيا ما كانت، فإن ما أقدم عليه الرئيس الحريري، كرئيس لـ»تيار المستقبل» درس الجميع بلا استثناء، واذا كان لا بد من ارتدادات، فستكون، بلا شك، ارتدادات ايجابية، لا سلبية، كون الحريري، الذي أقدم على ذلك لم يتوقف في مسألة المساءلة والمحاسبة عند أي اعتبارات شخصية او عائلية، وقد ساوى «سيف العدالة» بين الجميع، وهذا انجاز بالغ الأهمية، ويعزز من أهمية الدور، بل الادوار الملقاة على الرئيس الحريري، والمهيأ لترؤس وتشكيل «حكومة العهد الاولى» بعد الانتخابات النيابية.. خصوصاً وان هذه الانتخابات أظهرت «التيار الازرق» على أنه «مايزال الرقم الصعب» سنياً ووطنيا، في مواجهة الثنائيات الأخرى، المتحالفة مع بعضها او المتخاصمة..
ليس سهلاً ما حصل، وليس هيناً وليس عادياً، وما أقدم عليه الرئيس الحريري يستحق ان يسجل له على صفيحة من ذهب، حركة اصلاحية يأمل عديدون ان تمتد الى سائر القوى والتيارات والاحزاب الأخرى، التي ضربها عفن الفساد والفوضى والمحسوبيان والشخصانية، من رأسها حتى أخمص قدميها..