IMLebanon

استقال الحريري… هل انتهت مشكلة الدولة؟!

 

 

في حومة الأحداث الثورية ليست كل الشعارات عقلانية، وإنما يخلق التداعي الجماهيري تلقائياً مناخات مشحونة بالطموحات والأحلام، قد تنفرج العقد، وأحياناً يبدو الواقع السيء أكثر تمكناً وتغلغلاً.

ليست النهاية أن يستقيل الحريري ولا أن تأتي حكومة أخرى بصفاتٍ مختلفة، وإنما الرهان على تغيير طريقة الحكم من المحاصصة الطائفية إلى نظامٍ مدني علماني، به تتجه الدولة بناسها نحو المساواة وقوة الفرد بدلاً من التركيب الطائفي والانضواء خلف الزعيم. إن الانتقال من «حالة الطبيعة» الذئبية بين البشر إلى مفهوم الدولة ونظامها من أعظم ما أنجز في التاريخ، وذلك بعد قرونٍ من الاقتتال والدم منذ الحرب الأهلية الانجليزية التي عاصرها توماس هوبز وإلى الحروب الدينية وإضافات روسو وكانط وراولز، والاقتراب من مشاعر التناحر والاقتتال أقرب لحالة الطبيعة منها لمفهوم الدولة، ببساطة كيفية وضع عقد اجتماعي راسخ يحقق الحريات ويحدد الواجبات.

ارتفع سقف مطالب المتظاهرين بلغ حد المطالبة بتنحية رئيس الجمهورية، وأياً كانت المآلات فإن الحدث اللبناني تأخر كثيراً، على الأقل برفع صوت احتجاج على الأوضاع القائمة، وإطلاق صرخة بوجه الزعامات التاريخية المغرورة والفاسدة والمنهارة والمتآكلة. الطريق وعرة، ومابني في ثلاثين سنة، يصعب هدمه في ثلاثين يوما، وإنما يستعان بهذه الأحداث وآثارها على تغييرات محورية في النظام السياسي، وإحداث هزة تاريخية يبنى على إثرها نظام أكثر إحكاماً وأقرب إلى مفهوم الدولة، ليست الفكرة في استقالةٍ حكومة ومجيء أخرى، وإنما في بناء دستوري جديد يحرر لبنان من أغلال الطائفية وقيودها.

هناك، في وسط الأحداث يهتف العديد بتجربة السعودية، وتحديداً باسم ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، يتمنون تحقيق حملة ساحقة على الفساد كالتي قادها الأمير، وهذا مجرد فصل واحد من كتاب التطوير، من مثل هذه التجارب تتعلم المجتمعات كيف تصنع الدول نماذجها الساحرة للأقربين والأبعدين.

يحلم العرب برؤيةٍ كالتي رسمها الأمير محمد بن سلمان، في البرامج المتنوعة وساحات الاحتجاج بلبنان وحتى العراق، يطالب الناس بالقبض على الفاسدين، من يصدق أن بلداً مثل لبنان يعاني من هذا المأزق الاقتصادي المدمر؟! رغم توفره على إمكانيات مهولة يمكنه الاستناد عليها لتحقيق اقتصاد ناجح، والعجب أن الصراع على النفط وربما التخطيط لاقتسامه قد بدأ أو انتهى قبل التنقيب عنه، هذه مهزلة تاريخية كان على اللبنانيين الاحتجاج عليها منذ عقود.

قبل استقالة الحريري، ساد العناد السياسي ضد مطالب المحتجين وهذا يفسر ضعف المؤسسة الديمقراطية في لبنان، عناد الذهنية المستبدة، ما الفرق بين طاغية يقول أحكمكم أو أقتلكم كما فعل القذافي وبشار الأسد وصدام حسين.

في لبنان هناك من يعتبر نفسه الأجدر بحكم البلاد، أو المتفضل على الناس بعبقريته في إدارة الدبلوماسية وملفات الخارجية، بل قد يدعي حقه الأوحد بالسلطة في لبنان وشرعية الانفراد بها، وبالتالي فإن المحتجين مجرد هوامش لا قيمة لهم في التداول الديمقراطي.

في عام 1993 طرح المفكر اللبناني فؤاد إسحق الخوري، كتاباً بعنوان: «الذهنية العربية – العنف سيد الأحكام» فيه يحلل اللعب والآيديولوجيا، وقد كتبتُ عن تفسيره للفرق بين لعبة طاولة الزهر والشطرنج؛ في الأولى تصور لا هرمي للكون والمجتمع، أحجارها متساوية القيمة، بينما الشطرنج تختلف أحجارها بالقيمة.

وهذه تشرح المشكل السياسي الأساسي في الصراع بين الزعامات وإنتاجها لعلامات اجتماعية خطيرة، يورد فؤاد ملاحظة مهمة عن لبنان: «انشلت قوى الأمن الوطني بفعل الاقتتال، وضعفت قدرة الدولة المركزية على السيطرة على الوضع الأمني، فقامت إثر ذلك حركات وتجمعات وتنظيمات محلية شبه عسكرية (ميليشيات) تؤدي وظيفة الأمن، تدافع عن مناطق سكنها، وتحميها من الاعتداءات الخارجية المحتملة، كما وأنها كانت تؤمن للناس بعض الخدمات المعيشية الخاصة، وفي سنة 1980 وبمساعدة بعض الطلاب في الدراسات العليا في الجامعة الأميركية، استطعت أن أحصي نحو 32 مجموعة من هذه التنظيمات المحلية المنتشرة في كل أنحاء المدينة. غير أن هذه التنظيمات شبه العسكرية لم تكن لتبرز هكذا بطريقة عشوائية، وإنما جاءت لتعكس البنية الاجتماعية بالذات، كان كل تنظيمٍ يقوم بالأساس على الروابط العصبية التي تجمع بين الأعضاء».

أزمة لبنان تعكس الخلل في مفهوم الدولة من جذره، أمر يعزوه المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري، إلى خلل في «تكوين العرب السياسي»، كما بعنوان كتابٍ أساسي له، ضم عدة أبحاثٍ في مأزق تصور تكوين الدولة، والمفاجئ أن لبنان لا يفشي عن آلامه السياسية فقط، وإنما يطرح معضلة نظرية للمثقفين المتمسكين بالديمقراطية بوصفها مقدمة لكل تنمية، وهذا تصور ساذج واهم، اليوم تتفوق نماذج خليجية، على رأسها السعودية، وتحتل مراتب متقدمة بالنمو الاقتصادي والقضاء على الفساد.

يصح على الحدث اللبناني قول نورينا هرتز في كتابها: «السيطرة الصامتة – الرأسمالية العالمية وموت الديمقراطية»: «قد لا يكون من الغرابة أن يدير جمهور الناخبين ظهورهم لسياساتٍ تقليدية حتى في بلدانٍ تعلن أن الديمقراطية هي واحدة من أعظم إنجازاتها، عندما تكون الحكومات في ضعف مطرد، غير مستعدة أو غير قادرة أن تتدخل إلى جانب مصالح مواطنيها، وفاقدة كما يبدو لأي إحساسٍ بالغاية الأخلاقية».