في السياسة مقولة رائجة: السياسة فنّ الممكن. وفي فنّ الممكن اليوم الإستجابة الى إرادة الشعب اللبناني. والشعب الذي تمسك مرة ومرتين وعشراً بالرئيس سعد الحريري “رفع العشرة” هذه المرّة وما عاد يقبل بأقلّ من المحاسبة.
في 16 شباط، بينما كانت الجموع تهتف بمحاسبة قاتلي رفيق الحريري ولقاء نواة أبطال “السيادة والحرية والإستقلال” في قريطم وصل سعد الحريري (35 عاماً) الى القصر محاطاً بمرافقين وبتهليلٍ وتصفيق. إجتمع مع المجتمعين وأصحاب القرار وبايعوه وريثاً سياسياً. وانطلق الشاب الحامل شهادة في إدارة الأعمال من جامعة جورج تاون في واشنطن في عالم السياسة اللبنانية المثقل بالتحديات والألغام والحسابات والتسويات. العدالة كانت مطلباً أوّل تحت خيمة “سيادة حريّة إستقلال”. ولدت 14 آذار بتحالفٍ وثيق بين ثلاثة أقطاب: “القوات”،”الإشتراكي” و”المستقبل”. إنتخب الشيخ سعد نائباً عن بيروت. وفي 27 تموز 2009 اختير ليُشكّل أول حكومة له في عهد الرئيس ميشال سليمان. لم يكن تشكيل حكومته الأولى سلساً. إعتذر. وهو اعتذاره الأوّل في 10 أيلول 2009. لكن أعيدت تسميته مرة ثانية ليُحاول مجدداً تشكيل حكومته الأولى. مفاوضات شاقة جرت (ودائماً بدعم محلي قوامه إشتراكي، قواتي، إقليمي ودولي عارم). وفي 9 تشرين الثاني 2009 فعلها وأصبح رئيساً لحكومة لبنانية جمعت كل المعارضة والموالاة إلى وزير ملك هو الدكتور عدنان السيّد حسين. ممتاز. قالها كثيرون وابتسم لها كثيرون. وفي ليلة ليلاء إستقالت الحكومة بإجراءٍ وتوقيت قوامه: “التيار الوطني الحرّ”، “حزب الله” و”حركة أمل” وسُحب البساط من تحت حكومة سعد الحريري الأولى.
وفي 11 تشرين الثاني 2016 إثر انتخاب ميشال عون رئيساً، كُلّف الشاب من جديد بتشكيل حكومة جديدة وفعلها مجدداً بعد أربعين يوماً من المخاض. وفي 3 تشرين الثاني 2017، في لحظة فاجأت الجميع، أطلّ من المملكة العربية السعودية مستقيلاً. وحدث ما حدث وركض الناس، في ماراثون بيروت 2017، على نية عودته. وعاد يوم عيد الإستقلال رئيساً لحكومته. وها نحن في تشرين 2019. وها هو الشعب يصرخ: لاستقالة حكومة سعد الحريري والسلطة، كل السلطة، وكلّن يعني كلّن.
“القوات” استقالت. والحزب “التقدمي الإشتراكي”، الحليف الآخر لرئيس الحكومة، فكّر بالإستقالة. أقدم. تريث. اشترط ولم يستقل. طلب رئيس الحكومة مهلة. ومن أسقطوه في 2011 يشدّون اليوم على يديه للبقاء. يا لسخرية القدر.
ماذا يعني كلّ هذا؟
مصدر داعم، سابق، لبقاء الحريري ومعترض اليوم على بقائه، يُلخّص ما آل إليه الوضع بهاتين الكلمتين: من سخريات القدر أن الطرف الذي أسقطه في 2011 هو الطرف الذي تمسّك به في 2019.
وماذا بعد؟
الزمن تغيّر. المواقف تغيّرت. فهل الرئيس سعد الحريري أيضاً تغيّر أو قُذف في هذا الإتجاه؟ وهل سيبقى يحاول أم سيرضخ ويقلب، في الوقت الأخير، بنفسِهِ الطاولة؟
الرئيس سعد الحريري أكثر من يعرف أن المحاولة ما عادت ممكنة والإعتراض كبير والغضب الشعبي لن يقوّضه سوى تدحرج أسماء لا مجرد حلول ضرائبية متأخرة. ويقول مصدر أصبح في مصاف المعارضة: أراد “حزب الله” في 2011 إعادة عقارب الساعة الى ما قبل العام 2005 باستعادة الإمساك بمفاصل الدولة في شكلٍ تام وإنهاء ثقافة الشراكة بين 8 و14، التي أنتجتها ثورة 14 آذار، فقرر يومها إخراجها من السلطة ومحاولة الإمساك بالقرار السياسي منفرداً من جديد. لم ينجح. ودخلنا مجدداً مرحلة المساكنة مع حكومة تمام سلام.
الأمر اختلف جداً، وطرق التعبير إختلفت جداً بين اللحظتين. ومن يريد إبعاد رئيس الحكومة اليوم هو الشعب اللبناني الذي كان المتمسك الأكبر ببقائه. وهذا في حدّ ذاته مؤشر غير بسيط أبداً. بمعنى أن المطالبة بالإستقالة لم تأتِ من أقلية وزارية أو أكثرية وزارية وليست مسألة توازنات ناتجة عن فريق معارضة أو موالاة بل عن شريحة كبرى من الرأي العام اللبناني. وهذه التظاهرة المليونية غير المسبوقة، حتى في لحظة 14 آذار الكبرى، هي التي تطالب هذه الحكومة بالإستقالة.
إستقالة “القوات اللبنانية” صحيح أتت، في هذه اللحظة الزمنية، إستجابة للإرادة الشعبية العارمة، لكنها أتت منسجمة مع قناعات طالب بها قائدها منذ أشهر، على طاولة قصر بعبدا الحوارية، وتقضي بضرورة تشكيل حكومة تكنوقراط، كون هذه الحكومة ما عادت صالحة لمواجهة التحديات الإقتصادية. موقف سمير جعجع شكّل تحذيراً مبكراً من هذه اللحظة بالذات، وهي لا تندرج ضمن حسابات سياسية بل هي في مكان آخر مختلف تماماً عما حاول البعض الإيحاء به.
تجاهُل مطالب الناس بات مستحيلاً. والرئيس الحريري يعرف هذا، كما سبق وأشرنا، تماماً. ومصدر قريب منه يقول: هذا ما سيحصل عاجلاً أم آجلاً لأن ما يحصل اليوم غير مسبوق في تاريخ لبنان المعاصر. ولا أحد يمكنه التنكر لواقع سياسي جديد سيرسي مرحلة سياسية جديدة في لبنان. وهناك من يحاول حتى اللحظة تجاهلها.
ليس سراً طبعاً القول إن رضوخ رئيس الحكومة الى الإستقالة ليس في مصلحة “حزب الله” و”حركة أمل” و”التيار الوطني الحرّ” ولا طبعاً رئيس الجمهورية الذي يعرف أن “الإنتصار” الأوّل على شاغل السراي سيجعل “الغضب الشعبي” يستدير نحو ساكن بعبدا وساكن عين التينة وهلمّ جراً… والرئيس الحريري بالتالي هو “الحاجز” الفاصل بين المتظاهرين و”كلّن”. هذا من ميل، ومن ميل آخر، لن يُثلج تشكيل حكومة تكنوقراط قلب “حزب الله” أبداً الذي لن يكون شريكاً فيها ولن يعود قادراً على إرسال إشارات الى العالم أنه في قلب النسيج الحكومي اللبناني. وفي موازاة مصلحة بعبدا وعين التينة والضاحية الجنوبية هناك مصلحة لدى الشيخ سعد في الصمود الحكومي بعد أن خسر هامته إقتصادياً وفي مقار دولية كثيرة.
“كلن يعني كلن”. ويستمرّ الغضب عارماً. والثابت أن العودة الى الوراء مستحيلة.