محظوظٌ الرئيس سعد الحريري بحيازته الجنسية الفرنسية. هي التي سهَّلت التسوية وأخرجته من «المأزق السعودي». ولكن، بعد «المحطة الانتقالية» في باريس، سيعود الحريري إلى بيروت… ويدخل مجدّداً في «المأزق اللبناني». فهل يكون أسهل من مأزقه السعودي أم أصعب؟
ستكون إقامة الحريري في العاصمة الفرنسية مرحلة انتقالية. والهدف منها هو امتصاص الصدمة التي أحدثتها الاستقالة من الرياض. وفيها سيجري تدبير السيناريو المناسب ليخرج الجميع من الأزمة بأقل ما يمكن من الأضرار.
والأرجح أنّ أحداً لا ينتظر تحقيق الأرباح من الأزمة، في المدى القريب، لا السعودية ولا إيران ولا أيّ من القوى الداخلية. ولكن، في المدى البعيد، سيظهر بالتأكيد رابحون وخاسرون.
استخدم الفرنسيون كل رصيدهم لتأمين الإفراج عن الحريري، المواطن الفرنسي. كان يمكنهم أن يتحرّكوا قضائياً.
ولكن، يبدو أنّ الرياض تجاوبت أخيراً مع الطرح الفرنسي للتسوية، المدعوم أميركياً وأوروبياً: يبقى الحريري فترةً في باريس، قبل العودة إلى بيروت، ما يحقّق الأهداف الآتية:
1- إظهار أنّ المعلومات التي أدلى بها الحريري، من الرياض، عن مخطط لاستهدافه جسدياً في بيروت تتّصف بالصدقية. وتالياً، هو سيلجأ إلى باريس موقتاً للاحتماء. وفي فترة الإقامة هناك، يمكن القول إنّ الأجهزة الأمنية اللبنانية، بدعم الأجهزة الدولية والإقليمية، عملت على تعطيل أيِّ مخطط لاستهداف الحريري ووفَّرت له أجواءَ العودة الآمنة.
وسبق للحريري أن عاش تجربةً مماثلة، إذ غاب لسنوات متنقّلاً بين الرياض وباريس، بناءً على معلوماتٍ تلقّاها من أجهزة معيَّنة، تحذّره من محاولاتٍ لاستهدافِه جسدياً. ثم عاد الحريري في اللحظة السياسية المناسبة، قبل عام تقريباً، بعدما تلقّى التطمينات المناسبة من الأجهزة إياها ومن سواها.
2- خلال إقامته الباريسية، ولو كانت قصيرة، يستعدّ الحريري للوضع السياسي الجديد، الذي سيعيشه في لبنان، إذ سيكون أكثرَ تشدّداً في مواجهة «حزب الله» والدور الإيراني. فهو سيلتزم التوجّهَ السعودي – الأميركي المتشدّد تجاه «الحزب»، ولن يدافع عنه في المحافل الدولية، ولن يقبلَ بالتعايش مع «الحزب» داخل الحكومة إلّا إذا تلقّى وعوداً منه بانتهاج سياسة «النأي بالنفس».
3- ستكون هذه الفترة أيضاً فرصة للقوى الداخلية، ولرئيس الجمهورية خصوصاً، لكي تهيّئ الأجواءَ من جهتها لهذا النهج الجديد، وملاقاة الحريري إلى منتصف الطريق- شكلاً على الأرجح- تسهيلاً للشراكة التي يريدها عون معه، والتي يحتاج إليها «الحزب» في مرحلة الضغوط الأميركية.
4- ستكون مرحلة الإقامة الباريسية حلقةً وُسطى بين الرياض وبيروت. وفيها سيُتاح للحريري أن يعقدَ لقاءاتٍ سياسية مع سياسيّين ومسؤولين لبنانيين وغير لبنانيين.
لكنه سيلتزم التأكيد أنه ذهب إلى المملكة للضرورات الأمنية وأنه استقال احتجاجاً على دور «حزب الله»، أي أنه سيحافظ تماماً على كلّ الأسرار التي رافقت أزمة انتقاله إلى السعودية وإعلانه الاستقالة من هناك والملابسات التي رافقت الحدث وأعقبته. وسيبقى صارماً في التزامه هذا، حتى بعد عودته إلى بيروت.
ليس واضحاً كم ستطول إقامةُ الحريري في باريس. وموعدُ عودته إلى بيروت سيكون وارداً فورَ تهيئة الظروف المناسبة لتأتيَ العودةُ مريحةً له سياسياً. وقد اعتاد لبنان أجواءَ الفراغ والتعطيل والشلل في مؤسساته، ومنها مجلس الوزراء، لفترات قصيرة وطويلة.
ولكن، في النهاية، سيعود الحريري إلى بيروت. وهو يبقى الأوفرَ حظاً لتولّي رئاسة الحكومة في هذه المرحلة. والمفارقة هي أنّ الخطة السعودية التي أريدَ منها تغيير الحريري أو تغيير نهجه، قد أدّت عملياً إلى تثبيته ونموّ التعاطف معه من داخل آل الحريري وداخل «المستقبل» والطائفة السنّية. كما أنّ خصومَه باتوا يتمسّكون به «نكايةً» وعنواناً لإحباط المسعى السعودي.
الرئيس ميشال عون يقول: فليأتِ الحريري إلى بيروت لنستمع إليه، وإذا كان يتمسّك باستقالته، فليتقدّم بها. وعلى الأرجح، عندما يعود الحريري، سيكون قد تلقّى، وهو في باريس، تأكيداتٍ من القوى السياسية المعنية بأنّ ما شكا منه في بيان الاستقالة يلقى تفهّماً وهو موضع تجاوب.
وهذا التجاوب بدأت طلائعه:
– إعلان عون أنّ لبنان «ينأى بنفسه» عن النزاعات الإقليمية.
– تأكيد أوساط «حزب الله» أنه لا ينخرط عسكرياً في القتال في اليمن، وأنه يلتزم دعمَ الشعب اليمني سياسياً وإنسانياً وإعلامياً لا أكثر.
وسيُطلِق عون حواراً حول الاستراتيجية الدفاعية والنأي بالنفس. وسيكون على الحريري أن «يقتنع» بهذا المقدار من «التطمين»، وأن يُقنِع السعوديين. فإذا اقتنعوا، تكون الاستقالةُ قد طويت وعاد المسار إلى تسوية 2016 التي كانت مفاعيلُها سارية قبل الأزمة.
وأما إذا لم يقتنع السعوديون، فسيصرّ الحريري على الاستقالة وسط موجة جديدة من التوتّر السعودي. وهنا يكون الحريري أمام خيار تصريف الأعمال الذي سارع عون إلى التأكيد أنه يقتضي وجود الحريري في لبنان. وهذا سيؤدّي إلى الدخول في مأزق سياسي.
وأما الأسوأ فهو أن يذهب الحريري بعيداً في التصعيد، مراعاةً لاعتراضات السعوديين، ويخرج من لبنان مجدداً فتتكرَّر الأزمة الحالية ويعود كل شيء إلى النقطة الصفر. ولا أحدَ يمكنه إدراك السيناريو المقبل للأزمة، إذا تكرَّرت. ولكن، مفيدٌ التذكير بقول كارل ماركس: «التاريخ يعيد نفسَه مرتين: مرّة في شكل مأساة ومرّة في شكل مهزلة»!