تتساوى زيارتا الموفد السعودي لبيروت، والرئيس سعد الحريري للرياض، في الفائدة التي تتوخيانها: حاجة السعودية الى تصويب علاقتها مع لبنان لئلا يفلت من أصابعها، مقدار حاجة لبنان ــ والحريري خصوصاً ــ الى استعادة ما شاع أنه امتياز في المملكة
بَانَ من زيارة الموفد السعودي نزار العلولا لبيروت ظهر 26 شباط انها تريد اعادة فتح الابواب، ومن زيارة رئيس الحكومة سعد الحريري للرياض ليل 27 شباط فحوى التفاهم والتفاوض.
وكي لا يتكرّر خطأ «الاستدعاء» في 3 تشرين الثاني 2017، أتى صواب «الدعوة العاجلة»، وإن بدا انها لا تخلو قليلاً من الاستدعاء اذ سارع رئيس الحكومة الى تلبيتها بعد 24 ساعة على تلقيها.
في الظاهر، كلا الطرفين يتصرّف على انه نسي ما حدث في 18 يوماً ما بين التوقيف الغامض ــ الى حد الاحتجاز ــ في الرياض والعودة الآمنة الى بيروت في 22 تشرين الثاني. بيد ان بضعة معطيات مرتبطة بزيارة العلولا ومواعيده في بيروت، ومن ثم ذهاب الحريري الى حيث كان يُدعى هناك «ابننا»، تتحدّث عن الآتي:
أوّلها، جولة الموفد السعودي استطلاعية بحتة، توخت الاستماع الى آراء الافرقاء المعنيين مباشرة بها، وبالرسائل والايحاءات المنطوية عليها، كالحريري وقيادات 14 آذار الذين التقى بهم العلولا.
مع الرئيس ميشال عون كان الاجتماع بروتوكولياً محضاً، ومع الرئيس نبيه برّي ودّياً حمل حسن نيات دونما الخوض في الانتخابات النيابية ــ الاستحقاق الاهم والاقرب ــ كي لا يُساء تفسير مغزى الحضور. لذا حرص العلولا على ابراز التواصل الرسمي بين الدولتين وتوجيه الدعوة الرسمية الى الحريري. لكن الشق الآخر من المواعيد مختلف تماماً، من دون ان يكون واحداً بالضرورة مع كل مَن اجتمع بهم.
ثانيها، مهّد للزيارة ــ وقد يكون اوجبها واستعجلها ــ تذمّرٌ ذهب من بيروت الى المملكة من بعض الحلفاء اللصيقين بها، وشكوى من حال فوضى وتفكك تدبّ في هذا الفريق يضعفان قدراته على خوض انتخابات ايار، في مقابل تماسك الفريق الآخر وخصوصاً حزب الله. وصلت الشكوى ايضاً الى السفارتين الاميركية والفرنسية في بيروت، اللتين تحللان الواقع الذي يقبل عليه افرقاء 14 آذار متفرّقين، وبعضهم في مواجهة البعض الآخر، بازاء استحقاق ليس عادياً هذه المرة، وهو ذو فحوى استراتيجي اكثر منه محلياً.
ثالثها، تضخيم الصورة التي عليها حزب الله، والخشية من خروجه من الانتخابات ممسكاً مع حلفائه بالاكثرية المطلقة في البرلمان المنتخب (النصف + 1). خطورة هذه القوة انها المرة الاولى يحوز فيها هذا النصاب بعد انتخابات 2005 و2009، وكان بين ايدي قوى 14 آذار قبل انهيارها غداة انتخابات 2009. كمنت الخشية ايضاً في ان نصاب النصف +1 في المجلس ينعكس سيطرة على اولى حكومات ما بعد الانتخابات، وإن برئاسة الحريري نفسه. ومن المرجّح ان يمكّنه هذا الفوز من وضع اليد على معظم قرارات الحكومة، المرتبطة بنصاب الاكثرية المطلقة.
رابعها، ان رئيس الحكومة يندفع بحماسة غير مسبوقة الى تحالف سياسي مع رئيس الجمهورية، وتحالف انتخابي مع رئيس التيار الوطني الحر الوزير جبران باسيل. كلاهما يفضيان في نهاية المطاف الى تعزيز سيطرة حزب الله على الدولة اللبنانية ومؤسساتها وقراراتها، وليس في الانتخابات النيابية فحسب.
من قاعدة مختلفة هذه المرة، انطلقت فكرة زيارة العلولا لبيروت واستعادة العلاقة المباشرة مع الحريري، المجمّدة منذ محنته في الرياض الى حدّ تعذّر عليه مذذاك اللقاء بعائلته المقيمة في الرياض سوى في باريس ولندن. اختارت المملكة الآن اسلوباً مغايراً لما ادار به الوزير السعودي ثابر السبهان علاقتها بلبنان وطبقته السياسية، وتسليطه سيف التخويف والتهويل والتهديد، بآخر اكثر مرونة واظهاراً للاستيعاب. في صراع الشهرين اللذين سبقا ازمة 4 تشرين الثاني الماضي، كان محور الضغوط على الحريري لابعاده عن عون ووضعه في مواجهة مباشرة مع حزب الله، حمله على الاستقالة بالقوة بفرضها عليه. وهو ما ابصره العالم في ذلك اليوم. على ابواب انتخابات 2018 باتت الحاجة ــ في سبيل الوصول الى الهدف نفسه وهو رئيس الجمهورية وحزب الله ــ الى التعويل على إقناع بالحسنى وليس بالاقتصاص.
تدرّجت الخطوات: ردّ الاعتبار الى لبنان اولاً بزيارة موفد ملكي الى بيروت وإن بقصر المقابلة على رئيس الجمهورية على عشر دقائق، ثم ردّ الاعتبار الى الحريري بزيارته في السرايا اقراراً بالرجل رئيساً لحكومة لبنان بعدما حاولت المملكة تجريده منها، ثم دعوته الى مقابلة الملك سلمان، ثم استقباله هناك بالحفاوة التي كشفت عنها وسائل الاعلام السعودية.
مع ارسال موفدها الى بيروت، كانت المملكة ألمت بالمعطيات التي ارسلها اليها اصدقاؤها اللبنانيون، مؤكدين لها ان الكيان الاستراتيجي لقوى 14 آذار في مرمى الخطر الحقيقي، وليس فحسب خسارة مقاعد في البرلمان المقبل، ما يقتضي توفير ظروف نجاح المواجهة الجديدة من قلب الانتخابات النيابية. لم يعد في الامكان التعويل ــ كالتجربة مع السبهان ــ على اسقاط الحكومة وقد بات رهاناً مفلساً ادى الى تداعيات معاكسة اضرت بالمملكة، ومدّت رئيس الحكومة بجرعة دعم شعبية كما لو انها هبطت من السماء في مرحلة اقلقه ضمورها، فضلاً عن أن ما حدث قاده الى ابعد من ذلك: الالتصاق برئيس الجمهورية الذي وقف الى جانبه، والى توطيد مزيد من التحالف السياسي والانتخابي مع حزبه التيار الوطني الحر.
بلغ التحوّل السعودي الى الحريري قبل وصول الموفد الملكي. الا انه كان تلقى، قبل اقل من شهر، اشارة سلبية مصدرها الاميركيون، مفادها عدم رضاهم عن اندفاعه في التعاون مع رئيس الجمهورية ووزير الخارجية، وتخليه عن بعض حلفائه السابقين في قوى 14 آذار. اقترنت الاشارة بنصيحة اقرب الى تنبيه: خذ حذرك.
تحت وطأة ما في الامكان توقّعه من المملكة، وتقليل عناصر القلق التي يغلّبها حلفاء الخارج على موقفهم منه، تريّث الحريري ــ ولا يزال ــ في اعلان لوائحه في كل الدوائر، رغم تأكيد البعض انها ناجزة. بسبب التريّث نفسه، احجم عن الافصاح عن تحالفاته الانتخابية، وإن بدا في الظاهر بعضها معلوماً، كالتحالف مع التيار الوطني الحرّ في عدد من الدوائر اذ يعود الى اكثر من شهرين خليا. تريّثه هذا حمل العدوى ايضاً الى مَن يروم التعاون والتحالف معه كرئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، ومَن لا ينتظره كرئيس حزب الكتائب النائب سامي الجميّل، وشخصيات اخرى مستقلة محسوبة على الائتلاف الراقد، كي يستمهلوا هم الآخرون.