كل المؤشرات توحي بأن الحكومة مؤجلة إلى إشعار آخر. بين العقوبات الأميركية وتشدد كل من طهران والرياض، لا يمكن الكلام حالياً عن مفاوضات جدية لخرق جدار أزمة التأليف
في ظل المراوحة الحالية للوضع الحكومي، لا يفصل سياسيون متابعون وضع لبنان عن استحقاق بدء العقوبات الأميركية على إيران. وإذا كان الكلام عن ربط مصير الحكومة بتطورات الجوار بديهياً إلا أنه مع كل استحقاق تبرز معطيات جديدة. فالواقع يؤشر دوماً إلى هذا الترابط، علماً أن متابعين على صلة بدوائر أميركية يتحدثون عن مؤشرات تساهم في تعميق الأزمة الحكومية الراهنة.
منذ أن تجدد الخلاف الأميركي ــــ الإيراني حول الملف النووي، تشهد إدارة دونالد ترامب، صراعاً بين خطين، الأول، تمثله وزارة الدفاع التي تريد «إخضاع» إيران، لكن من دون شن حرب عليها أو تشديد الخناق عليها، والخط الثاني تمثله وزارة الخارجية في ظل الولاية الحالية للوزير مارك بومبيو، والتي تميل إلى التشدد مع إيران وحتى ضربها ويتفق معها في الرؤية نفسها مستشار الأمن القومي جون بولتون.
لا يعني هذا التناقض، أن وزارة الدفاع الأميركية بقيادة جيمس ماتيس راغبة في بناء أفضل علاقات مع إيران من دون أثمان، لكنها تميل إلى اجتذابها إلى الحوار والتفاوض مع دفع أثمان تحددها واشنطن كما حصل مع كوريا الشمالية. أما وزارة الخارجية فترى أن إيران ليست كوريا الشمالية وأنها مختلفة عنها بنفوذها، إذ تمد سيطرتها على جزء أساسي من الشرق الأوسط وتحرك ساحات لبنان وسوريا والعراق واليمن وغزة، ما يستوجب أن تُعامل بأسلوب أقوى من الذي مورس ضد كوريا الشمالية. وبين هذين الخطين المتناقضين، تتأرجح نظرة الرئيس الأميركي إلى مستقبل العلاقة مع إيران وكيفية مقاربة أزمة الاتفاق النووي والعقوبات، فيتشدد في روزنامة العقوبات ويفتح في الوقت نفسه نافذة للحوار معها.
في المقابل، فإن إيران التي تعلن مواقف متشددة تجاه واشنطن وتعليقها الاتفاق النووي، لا تقفل الباب أمام أي حوار، لا عبر سلطنة عمان، ولا حتى عبر الشركاء في الاتفاق، لا سيما العواصم الأوروبية المتضررة أيضاً من رد الفعل الأميركي، والتي تقف إلى جانب طهران حالياً. لكن إيران، إذا اضطرت للتفاوض مجدداً، فلن تذهب ضعيفة إليه مهما كان شكله. ومصدر قوتها، الأوروبيون المؤيدون لها، والتناقض الحالي في الإدارة الأميركية، إضافة إلى السبب نفسه الذي يجعل الخارجية الأميركية متشددة حيالها، أي دورها في المنطقة، وهي ستكون حالياً في مرحلة تجميع أوراقها للمواجهة بها. ومن الطبيعي في هذه الحال أن يكون لبنان أحد هذه الأوراق.
يتقدم لبنان عند السعودية على غيره من ساحات، فيأتي الرد على إيران وحلفائها بالمراوحة الحكومية
وفيما تذهب واشنطن إلى فتح الملف الإيراني في المنطقة على مصراعيه، ويتريث حزب الله في إبداء مواقف علنية من الحكومة، ترتفع فجأة لهجة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون. ومن ثم يتشدد في تلويحه تارة بحكومة أكثرية وتارة برفض مطالب الأفرقاء السياسيين، وعدم محاولته فتح كوة في جدار الأزمة. لا بل إن عودته إلى الظهور الإعلامي والسياسي، بخلاف الأسلوب الذي اعتمده منذ بداية عهده، ليحدد بنفسه رؤيته للحكومة ومطالب الأفرقاء منها، ويحدد خليفته المستقبلي لرئاسة الجمهورية، يؤشر إلى أن الأزمة مرجحة للتفاقم أكثر، على رغم أن مقربين من رئيس الجمهورية يعتبرون أن الخلاف المحلي الضيق قابل للحل مع بعض التنازلات المحدودة، وأن لا ضرورة لهذا الأسلوب لأنه ليس الأمثل والأصلح حالياً. فعودة الجنرال إلى لعب دور المعارض كما درَج عليه من الرابية تظهر وكأنه لم يخرج بعد من صورته السابقة ليدخل في عباءة رئيس الجمهورية. ناهيك عن أن عون يتحدث بنفسه عن مرحلة الاستحقاق الرئاسي، في سابقة لم تحصل مع أي من أسلافه الرؤساء والأرجح لن تحصل مستقبلاً، بغض النظر عن هوية مرشحه وما يدور حول هذا الترشيح من التباسات، واحتمال نجاح السيناريوات الموضوعة لتقريب موعد هذا الاستحقاق. ولا يكتفي عون بذلك، بل يعمد إلى تصعيد الخلاف مع حليف السعودية، أي رئيس حزب القوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع، ومن ثم مع رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، من دون أن يوفر بسهامه الرئيس المكلف سعد الحريري.
هذا الانقلاب في المشهد الرئاسي يعطي للأزمة الحكومية طابعاً محلياً، لكنه في الحقيقة يشكل أيضاً جزءاً من لعبة عض الأصابع الإقليمية. لأن السعودية دخلت أيضاً على خط الأزمة ودورها مرشح أكثر لمزيد من الحضور، في ضوء المواقف الأميركية المتأرجحة من إيران. فالسعودية ومعها الإمارات، وطبعاً إسرائيل، من الدول المؤيدة لضرب إيران، وهي لا تنظر بعين الرضى إلى المواقف الأوروبية وتردد ترامب، خصوصاً بعد أشهر الود بينها وبينه، بما يناقض العلاقة مع إدارة الرئيس باراك أوباما. وعلى هذا المسار، يتحدد مصير «الناتو» العربي المعروض أميركياً منذ أشهر، ومدى موافقة السعودية عليه كي يبصر النور، إن لم تحصل أيضاً على ما يرضيها على الخط الإيراني، فلا تقود المواجهة معها وحدها ومعها دول الخليج. ولأن السعودية تترقب بحذر المرحلة الممتدة من آب إلى تشرين الثاني حتى تتضح صورة العلاقة الأميركية – الإيرانية، تحاول هي أيضاً اللعب حيث نفوذها أقوى وأفعل. وحتى الآن، يتقدم لبنان أكثر من أي ساحة أخرى، في أوراق السعودية، فترد الأخيرة على إيران وحلفائها في لبنان عبر المراوحة الحكومية.