باحتساب مَن نزل الى الشارع منذ 17 تشرين الاول، والذين يعتاد حزب الله انزالهم كلما خطب امينه العام، والذين أنزلهم الرئيس سعد الحريري دفاعاً عنه، والذين زربتهم الطرق الفرعية، الى ما حدث امس في بعبدا، يكون اللبنانيون جميعهم في الشارع، ولكل مواله…
ما حدث البارحة قرب قصر بعبدا، بعد الذي جرى أمس ايضاً وفي الايام المنصرمة في الساحات والمناطق ولا يزال مستمراً، اوحى بنشوء اكثر من شارع قبالة اكثر من شارع. في عدّ المحتشدين واحصائهم هنا وهناك خلاف مؤكد. الا ان القراءة السياسية تبدو متاحة اكثر واسهل، ليس في ما توخته الساحات الممتلئة فحسب، بل في ما هو متوقع من المأزق الذي وقع فيه الحراك الشعبي والطبقة الحاكمة في آن.
على غرار قياس الاحجام الذي تبادلته قوى 8 و14 آذار ما بين عامي 2005 و2009، بدا من الواضح ان الحراك الشعبي – غير المسبوق في حجمه وتوسعه وساحاته العابرة للطوائف وشعاراته ولعناته حتى – استنفر منذ استقالة حكومة الرئيس سعد الحريري في 29 تشرين الاول اكثر من شارع اتسم بنَفَسَ مذهبي بحت، على نحو الشارع السنّي في طرابلس وبيروت وصيدا وعكار والبقاع الاوسط، والشارع المسيحي في قصر بعبدا امس، ناهيك بالشارع الشيعي المتأهب في كل لحظة يخطب فيها الامين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله.
على ان ما اضافه الشارع المسيحي البارحة في محيط قصر بعبدا، انتقل بالاشتباك من الحراك الشعبي مع الطبقة الحاكمة الى داخل الطبقة هذه وبين افرقائها. الاصح القول، في معزل عن الحراك الشعبي وشعاره المستعصي التطبيق وهو اسقاط الطبقة كلها، فإن المواجهة الجديدة التي مثلتها حشود بعبدا – الموجهة الى الحراك كما الى الحريري – رمت الى ابراز بضعة معطيات منها:
1 – رداً على تحريك تيار المستقبل شارعه دعماً لعودة الحريري الى السرايا بشروطه، اتى تحريك التيار الوطني الحر شارعه – بعد جرعات دعم غير مشروطة من نصرالله للرئيس ميشال عون، كي يؤكد الشرعية الشعبية المسيحية لرئيس الجمهورية، بعدما بدا من موجات الحراك الشعبي طوال اقل من اسبوعين انها لا تكتفي باطاحة الحكومة، بل برئيس الدولة ايضاً. بعد استقالة الحكومة غالى الحراك في دعوة الرئيس الى الاعتزال. الاكثر مدعاة للانتباه ان عدداً وافراً من الشعارات الغاضبة والمناوئة لرئيس الجمهورية قيلت في المناطق الاكثر نفوذاً شعبياً له كالمتن وكسروان ناهيك بجبيل، وصولاً الى البترون مسقط صهره الوزير جبران باسيل. منذ البارحة استعاد عون، متسلحاً بشارعه، مبادرة التفاوض مع كل من الحريري والحراك.
2 – بات في حكم شبه المؤكد ان لا حكومة تكنوقراط خالصة، او لا تمت بصلة الى الكتل الرئيسية في مجلس النواب ولا ينبثق منها وزراؤها، مع ترجيح حكومة من 14 وزيراً. المعطيات التي يلتقي عليها رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان نبيه برّي وحزب الله حكومة ليس فيها نواب، مختلطة من سياسيين وتكنوقراط: الاولون من حزبيي الصف الثاني غير الموصوفين بالتصاقهم بمرجعياتهم، والتكنوقراط على صورة وزير حزب الله جميل جبق او وزيرة التيار الوطني الحر ندى البستاني. هم بذلك تكنوقراط الاحزاب والكتل، وليسوا هابطين في مظلات من خارج هذه الشبكة. مرجعياتهم الحزبية هي التي تختارهم. بذلك لا تختلف الحكومة المقبلة عن التي سبقتها منذ عام 2008 سوى في مواصفات وزرائها، دونما مسّ الجوهر الفعلي الذي هو توازن القوى السياسي القائم داخل السلطة الاجرائية. وهو ما يرفضه بإطلاق كامل الحراك الشعبي.
سيتعيّن على هذه الكتل ان تسمي هؤلاء بعد الاتفاق على توزّع الحقائب، وتُعهد الى الوزراء التكنوقراط من ابناء تلك الكتل، فيتولونها باعتبار الحقائب الاساسية تلك هي مثار غضب الشارع على اداء الوزراء الذين تعاقبوا على ادارتها ونهبهم المرافق والمال العام ناهيك باهداره. من شأن هؤلاء التكنوقراط، المفترض ان صفتهم الغالبة اختصاصيون، تطمين الشارع الى وضع حقائب الانتاج والخدمة في ايد موثوق بها.
3 – حكومة مختلطة كهذه من شأنها رد الاعتبار ليس الى مجلس النواب ودوره فحسب، بل الى شرعيته القانونية النافذة ما دام الحراك الشعبي يطعن في شرعيته الشعبية. سرعان ما التحق افرقاء سياسيون بذريعة الحراك في معرض دعوته الى حكومة تكنوقراط تقف وجهاً لوجه مع البرلمان الحالي. في وقائع الايام الاخيرة تأكد ان ثبات مجلس النواب لا يقل عن ثبات رئيس الجمهورية، ما يجعل شرعية احدهما رافداً لشرعية الآخر. لا يقتصر الاصرار على شرعية المجلس على عون وبرّي ونصرالله، بل يلاقيهم فيها الحريري وإن متمسكاً بحكومة تكنوقراط خالصة تستمد ثقتها من البرلمان الحالي.
لا تكنوقراط بمظلات او خارج الاحزاب والكتل وهي التي تختارهم
4 – نجاح الحريري في استعادته الى حد كبير الشارع السنّي في عدد من المناطق، لا يجعله بالضرورة الشخصية الوحيدة المؤهلة لدخول السرايا، وإن بدا ان احداً لن يجازف بخوض اسم آخر سواه. هو بالتأكيد اقوى الضعفاء في طائفته، سواء في ضوء نتائج انتخابات 2018 او في انقلاب الشارع الطرابلسي عليه، او في تحوّل ساحتي رياض الصلح والشهداء منصتين للتعرض اليه، او خصوصاً في عدم رغبته في ترك الحكم وتكرار تجربة انقطاعه عنه ما بين عامي 2011 و2014، وتبعاً لذلك التخلي عن «امتيازات» لم تطفىء تسوية 2016 جذوتها بعد. لكنه ايضاً اضعف الاقوياء في توازن قوى يجمعه مع عون وبرّي ونصرالله. يبدو الرجل وحده المتغيّر بين ثوابت ثلاث.
اول انطباع نجم عن استقالته انه لن يقبل بترؤس حكومة جديدة سوى بشروطه هو. في حصيلة الايام التالية للاستقالة في 29 تشرين الاول، تيقن من لاءات عون وبرّي ونصرالله ليس حيال فكرة حكومة تكنوقراط لا تمت الى الطبقة الحاكمة بصلة فحسب، بل تنقلب على توازن القوى القائم في البلاد منذ اتفاق الدوحة عام 2008. هو بذلك يحظى، مبدئياً، بدعم الثلاثي عودته الى السرايا على رأس حكومة يقاسمونه تأليفها، ولا تكون سوى على صورة الائتلاف الذي يجمع عون وبرّي ونصرالله في مقاربتهم لبنان دوره الاقليمي.
من ملف : حان وقت الحقيقة: من يلعب بالبلاد؟