IMLebanon

الحريري يرسم الحدّ بين الثورة والدولة

آخر تجَلّيات العطب السياسي الذي نعيشه كانت في التعاطي مع بيان «الائتلاف السوري المعارض» الذي وُزّع على أعضاء مجلس الأمن الدولي احتجاجاً على ما أسماه «انتهاك» الجيش اللبناني لحقوق الإنسان والاعتداء على النازحين السوريين.

وحده رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري تنكّبَ عناء ترسيم الحد الفاصل بين حقّ «الائتلاف» بالدفاع عن حقّ وكرامة النازحين السوريين، وبين حقّ لبنان الدولة في حماية أراضيها بوصفِها دولة مستقلة عن الدولة السورية.

الائتلاف السوري قفَز فوق الماضي الرهيب للعلاقات بين الدولتين، والتي ما إن يَرِد ذكرُها حتى يتبادر إلى أذهان اللبنانيين «سيرة التدخّل» المديدة للنظام السوري في كلّ أوجهه منذ الانتداب الفرنسي وحتى اندلاع الثورة في سوريا.

فمنذ استقلال سوريا ولبنان عن فرنسا في الأربعينات من القرن الماضي شهدَت العلاقة بين البلدين حالات مدّ وجَزر مرتبطة باتّجاهات الأنظمة المتعاقبة على الحكم في سوريا والمصالح الإقليمية لها وعلاقاتها بتيارات وتنظيمات سياسية داخل لبنان.

سيرة التدخّل السوري بالشأن اللبناني تبدأ منذ ما قبل انقلاب حسني الزعيم عام 1949. فمنذ كانت الحركة الوطنية السورية زمن الانتداب الفرنسي وسوريا بكلّ ألوان طيفها السياسي ـ حركات وأحزاب وتيارات ـ لا تنِي تتحكّم بمصير لبنان وتصادر قرار أهله، وساعدَها في ذلك كثيراً مغامراتُ لبنانيّين تقلّبَت صفاتُهم بين يمين ويسار حتى كانت الهيمنة الأمنية والعسكرية المطلقة عام 1975.

غالباً ما بدّلت سوريا تحالفاتها السياسية في لبنان بعد دخول قواتها إليه حسب ما تقتضيه مصالحها وتحالفاتها المحلية والإقليمية. كانت ترمي بثقلها لترجيح الكفّة السياسية لهذا الطرف أو كسر شوكة ذاك، فتارةً تتحالف مع اليمين اللبناني لتجدَ نفسَها في مواجهة مع المقاومة الفلسطينية ومع اليساراللبناني الذي هامَ حبّاً بفلسطين إلى حدّ تدمير البلد.

وحيناً تتبنّى تنظيماً فلسطينياً انشقَّ عن فتح (فتح الإنتفاضة، المجلس الثوري، الجبهة الشعبية القيادة العامة، الصاعقة وغيرها من جبهات التحرير المتعدّدة الأسماء والتي لم تسترجع شِبراً من الاحتلال الإسرائيلي) في مواجهة تنظيم فتح الأم.

تَناسى «الائتلاف» ما قدّمه اللبنانيون، أو أغلبُهم، لمساندة الثورة السورية واحتضان النازحين. وسكت حتى البَكَم عمّا فعله تنظيما «داعش» و»النصرة» ضدّ لبنان وجنوده.

قد لا يعيب «الائتلاف» صمته وقفزه فوق ما يجب أن يقدّمه لطمأنةِ اللبنانيين، لأنه أصلاً بقيَ عاجزاً عن تقديم رؤية لمستقبل سوريا، فضلاً عن انحسار قدرته على الأرض. نقيصتُه السياسية الأصلية تبقى في توزُّعِه على متابعة أنباء الخنادق في بلاده، من الفنادق في تركيا وصولاً إلى فرنسا وبلجيكا مروراً بقطر.

لكنّ هذه الرسالة بقيَت قاصرةً حتى عن الرسالة التي وجّهها المجلس الوطني السوري إلى اللبنانيين من منبر الذكرى السابعة لاغتيال الحريري في 14 شباط 2012، مؤكّداً أنّ «ثورتنا لا تستخدم أرضَكم في معركتها ووعدنا بعلاقات ندّية وترسيم حدود وتحقيق بملف المفقودين».

سيرة التدخّل السوري قد تمتدّ لسنوات ما لم ينهض سياسيّو البلد وأحزابه بما نهضَ به الحريري لتوكيد علاقات نموذجية تتجاوز «الماضي العنيف» بين البلدين، لصالح ارتياد مستقبل مشترك بين دولتين اثنتين.

الحريري وُلد وعاش في أجواء التوتّر في العلاقة بين البلدين، والتي أفضَت ذات يوم إلى اغتيال والده الرئيس الشهيد رفيق الحريري. والأهمّ أنّه أصاب في مقاربة الخطأ الذي وقعَ فيه لبنان مع النازحين السوريين، ولم يعتبر تأييدَ الثورة نقيصةً والابتعادَ عنها فضيلة، فهل هناك مَن سيُلاقيه أم أنّ اللبنانيين سيبقون معه على توتّر مقيم في دولتهم بانتظار الإجابة.

أكّد الحريري على واجب حماية اللاجئين والجيش اللبناني في آن معاً، لكنّه ابتعد كرجل دولة عن المقايضة في المبدأين: تأييد الثورة واحترام لبنان الدولة، مُصِرّاً في الوقت نفسِه على أنّ الموقف بدعم الثورة السورية «موقفٌ لا يخضع للمساومة والتبديل».