يروي إيلي حبيقة، القيادي السابق في «القوات اللبنانية» الذي قضى اغتيالاً في العام 2002، أن تقاربَه مع دمشق بدأ في صيف العام 1985، إثر لقاء جمعه بنائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام في منزل رجل الأعمال اللبناني حينها رفيق الحريري، في العاصمة الفرنسية باريس.
لم تكن العلاقة بين دمشق و»القوات اللبنانية» ودّية بطبيعة الحال، نتيجة أعوامٍ من الحروب المتناسلة التي لم تستثنِ أياً من الأطراف اللبنانية، والتي وقف كلٌّ من الجانبين المذكورين فيها على طرفي نقيض منذ تأسيس «القوات» كقوة ضاربة لـ «اليمين المسيحي» في العام 1976.
بعد اللقاء بأسابيع، توالت الاجتماعات بين حبيقة وبين نبيه بري ووليد حنبلاط، زعيمي «حركة أمل» و»الحزب التقدمي الاشتراكي»، برعاية سورية، إلى أن أُنجز «الاتفاق الثلاثي» الذي أُريد منه بحث صيغة حُكم جديدة للبنان، يُجمع عليها أبرز قادة القوى اللبنانية المُقاتلة على الأرض.
غير أن انقلاب القيادي العسكري في «القوات اللبنانية» سمير جعجع على حبيقة، بالتعاون مع رئيس الجمهورية اللبناني حينها أمين الجميل، أفشل الاتفاق، الذي مرّت أربع سنوات قبل إنتاج بديلٍ له في مدينة الطائف السعودية، وستُ سنوات قبل إقفال ملف الحرب بالقوة العسكرية، لكن قبلها وبعدها، بالتوافق الإقليمي والدولي.
هكذا، وُلد «اتفاق الطائف» من رحم جحيم استدرج تدخلات عسكرية وسياسية ومالية، لم توفّر نصف العالم العربي كما المعسكرَين الغربي والشرقي على أقل تقدير. وقد رُسمت حدود الاتفاق بخط «ضابط» إيقاع سوري، وبرضىً أميركي وحصّة سعودية مثّلها تبوء الراحل رفيق الحريري رئاسة الحكومة اللبنانية العام 1992.
جاء الحريري إذاً كجزء من التسوية الشاملة، التي بدأ مسارها الجدي مُنتصف ثمانينيات القرن الماضي، والتي كان فيها وسيطاً وازناً، يملك المال والعلاقات العامة، ويمُثّل بشكل غير مباشر ـ وهذا هو الأهم ـ «مبادرات» الرياض لإنهاء الحرب في لبنان بالتوافق مع دمشق.
بين الحربَين في سوريا ولبنان كمٌ من الفوارق التي لا يتّسع المجال لذكرها هنا. لكن المقارنة بين مسار التسوية في لبنان لناحية ما ذُكر أعلاه، وأحد احتمالات التسوية في سوريا، فيها من الإغراء الكثير.
في اجتماعات فيينا الأخيرة، ظهر واضحاً أن الدول المعنية بإنتاج حل سوري بدأت تُحدّد مساحات التوافق في ما بينها لناحية شكل الدولة وطبيعة «نظامها» بالأحرف الأولى. من هنا كان الاتفاق على استقلال الدولة، و«هويتها العلمانية»، والحفاظ على مؤسساتها، ووضع دستور جديد لها.
وبرغم أن النقاط المذكورة قابلة للتعديل أو إعادة التفسير في حال حصول متغيرات دراماتيكية، إلا أن راهن الحال لا يشير إلى نية أو قدرة أي من الأطراف الوازنة المنخرطة في النزاع على تخطي الإجماع على العناوين العريضة تلك. ويعود ذلك إلى قضية مركزية تمّت الإشارة إليها مراراً في الأشهر الأخيرة، وصارت قراءتها سهلة في «بيان فيينا»، مفادها أن انهيار مؤسسات الدولة السورية مسألة غير مرغوبة، وأن ثمة حاجة مُلحّة لإرفاق أي تغيير بمواجهةٍ جديةٍ لظاهرة الإرهاب العابر للحدود.
غير أن هذا «الإجماع» على النقاط المذكورة تلك ما كان ليحصل، بهذه السرعة، من دون التدخل الروسي العسكري المباغت. تركيا، على سبيل المثال، لم تكُن مَعنية بإنجاز تسوية تحفظ «وحدة الأراضي» السورية بل باقتطاع جزء منها بقوة الأمر الواقع، فيما هي اليوم تفاوض من منطلقات مختلفة نتيجة المعطيات التي فرضتها موسكو.
والإجماع المذكور لا يعني كذلك أن التغيير في سوريا لم يعُد مطروحاً. بل على العكس من ذلك تماماً. فقد صار شبه مؤكد، فيما النقاش اليوم في مداه وطبيعته. وهذا بالنسبة للقوى المعنية بالصراع يمثل لب المسألة: فالقضية ليست بشار الأسد، بل هي صلاحيات رئيس الجمهورية، والمسألة ليست بنية النظام، بل توزيع الصلاحيات على المؤسسات وإمكانية خلق مراكز نفوذ جديدة، والنقاش ليس في مبدأ التدخل الخارجي بقدر ما هو في دور «النظام» الجديد ووظيفته وتحالفاته وسياساته الخارجية.
لكن برغم هذا التنازع على الصلاحيات داخل سوريا المقبلة، فإن روسيا فرضت نفسها، حتى الآن على الأقل، «ضابطاً» لإيقاع التغيير السياسي. وحتى لو وصل التغيير في سلوك النظام الجديد إلى حد بعيد، كإنشاء وزارة لحقوق الإنسان وتسليمها لأحد المعارضين على سبيل المثال، فإن المسار العام، وفق موازين القوى والمعطيات الراهنة، يشير إلى أن موسكو ستهندس عملية التغيير، أو تشرف عليها على الأقل، بما يحفظ بنية الدولة ومؤسساتها، وعلى رأسها الجيش السوري.
في هذا السياق، فإن واحداً من السيناريوهات المحتملة يتمثل بأن تنتج التسوية رئيساً للحكومة، يكون «من حصة الرياض» لكن تحت سقف موسكو، التي تبقى متحكمة بـ «المسائل» الاستراتيجية الكبرى. وهو احتمال يتطلب ثبات الموازين على ما هي عليه، وتعديلاً في السياسة الخارجية السعودية يعكس قبولها بالوقوف في الصف الثاني ويفرمل من اندفاعاتها غير المحسوبة على مستوى الإقليم.
هل يُعقل بناءً عليه أن يعُاد إنتاج نموذجٍ حريري جديد، في دمشق نفسها هذه المرة؟ أم أن «ضابط الإيقاع»، موسكو، قد تسمح بقدر من الحضور السعودي على ألا يختصره اسمٌ واحدٌ أو حزب منظّم (وهو مرجّح، في حال تحقق هذا الاحتمال)؟ لكن ماذا عن حصة أنقرة وطهران؟ ومن هي القوى المُقاتلة على الأرض القادرة على التوافق فيما بينها لترجمة الاتفاق السياسي، قبل أن يفشل مرة واثنتين.. ونصل إلى الشكل الجديد للحكم في سوريا بعد سنوات؟