في تموز وآب 2006، كان لبنان يتعرّض لأقسى حربٍ إسرائيلية. المقاومة تواجه العدّو الصهيوني، تحت أنظار ما يُسمّى «المجتمع الدولي»، المُتفرّج على أطفالنا يُقتلون وبلدنا يُدمّر، وهناك في «الداخل» من كان يتواطأ مع «الخارج» ضدّ حزب الله. أمام تخاذل العالم، سجّلت فنزويلا، دولةً وشعباً، وقفةً مُشرّفة بتضامنها مع لبنان. التظاهرات عمّت شوارع البلد اللاتيني، والرئيس الراحل هوغو تشافيز، أدان يومها الاعتداءات الإسرائيلية، داعياً مجلس الأمن إلى اتخاذ قرار بفكّ الحصار عن الشعب اللبناني. لم يكن ذلك غريباً عن فنزويلا التي كانت أول بلد يلغي تأشيرة الدخول للفلسطينيين، ولم يحد يوماً عن التزامه القضية الفلسطينية والدفاع عنها من على المنابر الدولية، إضافة إلى دعم أي رافض للمشاريع الأميركية ومساندته في كلّ بقاع الأرض. على الرغم من ذلك، لم يجد لبنان داعياً لرفع الصوت، تضامناً واعتراضاً على محاولة اغتيال الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو. ولولا بيانات الرئيس السابق إميل لحود والحزب الشيوعي اللبناني وحزب الله وجمعية التضامن والصداقة اللبنانية الفنزويلية اللاتينية، لكان الحدث قد مرّ وكأنّ خبر محاولة الاغتيال لم يصل إلى بيروت. «النأي بالنفس» هو ما قامت به الدولة اللبنانية، «ساعدها» في اتخاذ موقفها أنّ المُتهم باغتيال مادورو، كان واشنطن، «رمز الديمقراطية والحريات». ولكن، لم تكد تمرّ أيام، حتى سارع رئيس الحكومة المُكلّف سعد الحريري إلى كَسر قرار النأي بالنفس، زاجاً البلد في صراع دبلوماسي بين كندا والسعودية، لا علاقة للبنان به، لا من قريب ولا من بعيد. والمُضحك، أنّ الحريري لم «يجرؤ» على الاعتراض على موقف واشنطن الرافض لاعتقال معارضين للنظام السعودي، ما دامت «الراعية الإقليمية» له استقوت أصلاً على كندا فقط.
رئيس السلطة التنفيذية في لبنان، الذي لم يُمانع تدخّل فرنسا والولايات المتحدة لدى الرياض للإفراج عنه غداة اعتقاله في 4 تشرين الثاني الماضي، دعا إلى «احترام السعودية في قضائها وقوانينها المرعية الإجراء على أراضيها»، مُعلناً تضامن لبنان مع السعودية ضدّ كندا التي اعترضت على الإجراءات المُتخذة بحق ناشطي حقوق الإنسان في الرياض. اللاموقف بحالة فنزويلا، والموقف بحالة السعودية، هما مثالان على الازدواجية التي تُعاني منها الدولة اللبنانية في ما خصّ مفهوم النأي بالنفس، الذي كان من المفترض أن يكون أداة لضبط المواقف المحلية، وإذا به يتحوّل أداة ضغط دولية على لبنان.
لا أحد يعلم لماذا فوّض الحريري إلى نفسه التدخّل في صراع دبلوماسي دولي بين بلدين يستقبلان العديد من اللبنانيين لديهما. عندما يدعو الحريري وفريق 14 آذار اللبنانيين من السياسيين والإعلاميين والمدونين إلى عدم التعاطف مع الشعب اليمني بحجة أن ذلك يهدّد مصير آلاف العائلات اللبنانية العاملة في الخليج، وفي السعودية على وجه الخصوص، تراهم يظهرون خبرات مفاجئة في الاقتصاد فيحذرون من انعكاس ذلك على التحويلات الواردة من اللبنانيين هناك.
قبل أن يهددونا بأن الموقف سيعرضهم للطرد. هل يعلم الحريري كم عدد العائلات اللبنانية التي تعيش في كندا؟ هل يعلم كم عدد الشباب والطلاب هناك، هل قالوا له عن حجم التحويلات المالية التي تأتي من هؤلاء إلى ذويهم في لبنان؟ ألا يعرف أن المال موجود أيضاً في أماكن أخرى من العالم، وتوجد الكرامة إلى جانبه!
تُعِدّ دوائر في «الخارجية» تقريراً لرفعه إلى باسيل، يتضمّن مخالفات النأي بالنفس
كذلك إنّ اتخاذ موقف إلى جانب السعودية ضدّ كندا، يفتح الباب أمام السؤال عن سبب عدم إدانة التدخلات الأميركية في شؤون بلدان أميركا الجنوبية مثلاً، وتطبيق واشنطن عقوبات على روسيا وإيران والتدخّل في المسائل الداخلية الإيرانية. و«التضامن الأخلاقي»، يُحتّم مُساءلة الدولة اللبنانية عن موقفها من الحصار الخليجي المفروض على البلد العربي «الشقيق» اليمن، ومن المجازر المُرتكبة بحقّ الشعب اليمني، وآخرها مجزرة طلاب ضحيان. لبنان نفسه، يصمت أمام تدخّل «المجتمع الدولي» ومشاركته في الحرب على سوريا، واستخدام الدول الأجنبية للأجواء اللبنانية لقصف دمشق والاعتداء على سيادتها. والصالونات اللبنانية تُفرش بالورود أمام الدبلوماسيين العرب والأجانب، لشرب «فنجان قهوة» والتدخل في كلّ شاردة وواردة محلية.
ما المعيار الذي على أساسه تُشهر بطاقة النأي بالنفس أو يُتغاضى عنها؟
الاستنتاج الذي توصّلت إليه دوائر دبلوماسية، أنّ لبنان «لا يُمارس النأي بالنفس إلا في ما خصّ الملف السوري، أما في القضايا الأخرى، فهناك تماهٍ كلّي مع الرؤية السعودية». تصف المصادر ما يحصل بأنّه «عقلية الخوف تجاه دول الخليج». أكثر الميادين التي يبرز فيها «الخلل اللبناني»، اجتماعات المنظمات العربية أو الدولية، حيث يتطلب الأمر تصويتاً على قرار ما. الأمانة العامة في وزارة الخارجية والمغتربين، ومكتب وزير الخارجية، «يتوليان توجيه موقف المندوب اللبناني في الخارج الذي تريد الدولة أن تتبناه، وغالباً ما يكون بمثابة الائتمان على مصالح السعودية». آخر الأمثلة على ذلك، اجتماع المندوبين الدائمين في منظمة المؤتمر الإسلامي، الذي عُقد يوم الأربعاء الماضي، بهدف «إدانة اعتداءات الحوثيين على ناقلتَي نفط سعوديتين واستهداف الملاحة في باب المندب والبحر الأحمر». وافق لبنان على الرواية السعودية، وعلى توجيه الاتهامات إلى إيران في البيان الختامي، «عوض الامتناع عن التصويت أو التحفظ، كما يفرض علينا النأي بالنفس». يظهر التمايز، أحياناً، عن المواقف الخليجية، كالبحث حالياً في إمكانية تطوير موقف لبنان من جبهة «البوليساريو» (الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب)، واتهام المغرب لحزب الله بدعم هذه الجبهة. أو من خلال الردّ على رسالة وزير خارجية اليمن. لكن هذا التمايز، «سرعان ما يضمحل فور الانتقال إلى اجتماعات المنظمات الدولية والعربية، ما يدلّ على سياسة خارجية مُضطربة، غير هادفة».
إدارة اللعبة تتناقض مع سياسة الرئيس ميشال عون، القائمة على أن يكون لبنان «جسراً للحوار» بين الدول العربية بما له من علاقات معها، و«تحفظ لبنان بعيداً عن أي محاولات لجرّه والمنطقة إلى ساحة للصراعات» (كلام عون خلال زيارته للقاهرة في شباط الـ2017). كلّ القوى السياسية في لبنان تتحدّث عن عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى، «من دون أن يكون لذلك انعكاس عملي»، بحسب المصادر، التي تُقدّم مثالاً على ذلك طلب دوائر في وزارة الخارجية التواصل مع سوريا من أجل الاطلاع عن كثب على وضع اللاجئين السوريين بعد عودتهم وما هو الوضع في دمشق، «قيل إنّ ذلك تخطٍّ للنأي بالنفس، ورُفض الطلب». يصطف لبنان إلى جانب السعودية، من دون أن تُسلّفه هي موقفاً واحداً. «مثلاً، جثة اللبناني الذي أُعدم في تموز بتهمة تهريب كمية من الكبتاغون، رُفض تسليمها». السياسة واضحة، «عدم إغضاب العرب، حتى السفراء اللبنانيون في هذه الدول يتعاملون مع السلطات بخفر». وبدل أن يستغل لبنان هذا الواقع لتوسيع مروحة علاقاته عوض ترك نفسه تحت المقصلة الخليجية، «نغيب عن الحضور في بقية البلدان، كشمال إفريقيا المُهملة التي لا يُقيم لبنان وزناً لفتح علاقات معها». حتى دولياً، «لا نهتم إلا بالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وكأن لا عالم ولا أسواق خارجهما. حالياً، بدأ الانفتاح أكثر صوب روسيا والصين».
الوضع ليس «ميؤوساً منه». في وزارة الخارجية، بدأت دراسة جدية لمواقف لبنان الخارجية والمعايير المعتمدة، من أجل كتابة تقرير يُرفع إلى الوزير جبران باسيل، يتضمن كلّ «المخالفات»، قبل طرحه في مجلس الوزراء مع ولادة الحكومة الجديدة. بطبيعة الحال، الحلّ غير سريع، في انتظار الفرج الحكومي. ليس الهدف من هذا الحراك، قطع الوصال مع الدول العربية أو الدولية، بل استغلال وجود رئيس كميشال عون في بعبدا، من أجل ترسيخ سياسة دبلوماسية حقيقية، تضع لبنان على مستوى «الندّ للندّ» في علاقاته مع جميع الدول، عوض أن يبقى لبنان «مُكبّلاً» برهاب أن لا «يزعل الأشقاء العرب».