عندما جلس الرئيس سعد الحريري مع الدائرة الضيقة من مستشاريه لتقييم خطوة اعلان تبنيه ترشيح الجنرال ميشال عون للرئاسة، توصل الجميع الى خلاصة مفادها بان «الاجواء مريحة» وردود الفعل المعترضة ضمن التوقعات، لكن «وجع الراس» الحقيقي غير المحسوب يبقى موقف رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي «خربط» الحسابات، ولا بد من معالجتها سريعا، اما باقي الامور فتفاصيل يسهل تجاوزها مع الوقت…فهل هذه الخلاصات دقيقة؟
اوساط «بيروتية» مطلعة على ما يجري في بيت الوسط تقول ان الحريري مطمئن الى ردود الفعل الدولية والاقليمية، لانه لم يتخذ قراره بمعزل عن الغطاء السعودي والاميركي لخطوته، ومن يقول غير ذلك يجافي الحقيقة، ويعطي الرجل صفات لا يتمتع بها، فهو ليس «بطلا خارقا» يستطيع ان يواجه الفيتو الاميركي والسعودي والتحفظ الفرنسي كما قيل، وهو ايضا لا يهوى «الانتحار» «كرمى لعيون» احد، وبالتالي فان «المظلة» الراعية لخطوته مؤمنة سواء كانت «بضوء اخضر» او ضوء «برتقالي» او بصمت بالغ الدلالة او بارباك في الموقف كما عبر جون كيري، المهم انه لم يواجه «ضوءا احمر» من احد، وهذا كاف للمضي بـ «المغامرة» التي لم يكن بد منها لانقاذ ما يمكن انقاذه…
خيار الحريري جاء انطلاقا من واقعية سياسية مفادها ان هزيمة حزب الله انطلاقا من استمرار الفراغ الرئاسي «عنوان» خاطىء، ساحة المنازلة مع الحزب ليست قصر بعبدا، كانت كذلك قبل سنتين ونصف السنة عندما كان الامل كبيرا في سقوط الرئيس السوري بشار الاسد، لا شيء يومها كان ليقنع السعودية او قوى 14آذار بـ «الاستسلام» الى خيار حزب الله السياسي فيما حليفه الاقوى في الاقليم آيل للسقوط، اما بعد تبدل الاحوال في دمشق لاسباب كثيرة يطول شرحها، بات التمسك بـ «حبال الهواء» والانتظار مجرد استنزاف يومي من الرصيد السياسي والشعبي لتيار المستقبل دون وجود اية استراتيجية واضحة لدوره في «المعركة الكبرى» في المنطقة بعد ان تفاهم الاميركيون مع السعودية على حفظ الاستقرار الداخلي على الساحة اللبنانية.
وبناء عليه وجد الرئيس الحريري نفسه «جالسا» الى طاولة واحدة مع حزب الله تحت عنوان «الحوار الثنائي» لابعاد مخاطر امتداد ازمات المنطقة الى لبنان، واكتشف لاحقا وربما متاخرا انه يخوض معركة غير مفهومة ودون اي اسباب موجبة مع التيار الوطني الحر، وبات منح السيد حسن نصرالله «نصرا معنويا» وسياسيا عبر تبني مرشحه الطبيعي للرئاسة تفصيلاً صغيراً يسلط الضوء على «هزيمة» سياسية واقعة لا يتحمل الحريري مسؤوليتها، بل تتحمل الادارة السعودية الخاطئة للملف اللبناني المسؤولية الكبيرة عما آلت اليه الامور، هو انجز في العام 2014 التفاهم مع عون، لكن «فيتو» وزير الخارجية السعودي الراحل سعود الفيصل»، وبناء على «حقد» شخصي على «الجنرال» اجهض التسوية، ودفع بعدها الحريري اثمانا باهظة بعد ان اجبر على البقاء خارج السلطة، وفي الوقت نفسه اجبر على تفعيل الحفاظ على التهدئة مع حزب الله، ودفع من رصيده الشعبي بعد ان تحمل وزير الداخلية نهاد المشنوق باسم تيار المستقبل مسؤولية وأد كل البؤر الامنية في البيئة الحاضنة السنية بفعل التعاطف «الواقعي» لهؤلاء مع «ثورة» سورية بدأت تأكل ابناءها وداعميها بعد ان هيمنت التنظيمات الارهابية عليها، فوجد تيار المستقبل نفسه وجها لوجه مع اعداء حزب الله، وتحول من كان يفترض ان يكون حليفا الى عدو يجب استئصاله، وتحول الحريري من شريك «للثوار» في سوريا الى مجرد غطاء سياسي وامني لحزب الله عبر حكومة تمام سلام ووزرائه الممسكين بالملفين القضائي والامني. هذا ما اكتشفه الوزير اشرف ريفي مبكرا فتمرد على «التيار الازرق»، وهو امر أدركه جيدا وزير الداخلية نهاد المشنوق لكنه عدل عن «الانشقاق» لان ولي العهد السعودي محمد بن نايف طلب منه التريث وتراجع يومها عن وعده لريفي بالخروج معه من الحكومة … امام كل هذه المعطيات بقي السؤال المركزي دون اجابة ولوقت طويل هل معركتنا في لبنان مع عون او مع السيد نصرالله؟ اذا كانت مع جنرال الرابية فهي دون اي هدف ولن تحقق اي نتائج، ثمة تعايش واقعي مع حزب الله ومن يتعرض للعقاب هو الحريري الغائب عن السلطة… اذا لماذا الاستمرار بـ «نطح الحائط»؟؟
على المستوى الداخلي التباينات داخل «تيار المستقبل» لم تتجاوز المتوقع، عندما انحاز الحريري الى خيار الثلاثي المشنوق- غطاس خوري – نادر الحريري، اصحاب نظرية «ليس لديك ما تخسره، مقايضة الرئاسة الاولى بالثالثة تستحق المغامرة»، كان يدرك ان الرئيس فؤاد السنيورة سيكون في المقلب الاخر، ولكنه بحكم معرفته بالرجل يعرف جيدا انه لن يكون نسخة اخرى من وزير العدل «المنشق»، حنكته السياسية و«تعصبه» الطائفي سيمنعانه من شق وحدة الطائفة السنية، حدود معارضته ستكون «ورقة بيضاء» وانتظار فشل «المغامرة» للانطلاق بتصفية حسابات داخلية يستعيد من خلالها «الكلمة الفصل» داخل «التيارالازرق». الحريري مطمئن الى ان السنيورة «سيفرمل» اي تمرد داخلي…
اما «صراخ» الوزير ريفي في الشمال فكان متوقعا، وغير مفاجىء بالنسبة للحريري الذي يدرك ان استخدام الشارع لن يكون في مصلحة «الوزير المنشق»، فتم ابلاغه من اكثر من جهة رسالة واضحة بان الامن «خط أحمر» لن يسمح لاحد بتجاوزه، ثمة من ذكره بتجربة الاسير في عبرا، اي خروج عن «النص» لضرب الاستقرار الامني لن يمر مرور الكرام. راهن ريفي بالامس على تقاطع مصالح مع المتضررين من وصول عون الى بعبدا، وظن ان نشر صور قائد الجيش جان قهوجي جزء من «لعبة» يمكن الاستثمار بها والرهان عليها، لكن القرار الصارم من قائد الجيش بنزع الصور شكلت رسالة ذات دلالات واضحة بان القيادة العسكرية خارج دائرة الصراعات السياسية الداخلية… حراك ريفي «السلمي» سيبقى ضمن سقوف محددة سلفا، مع الامل بان ينزلق الرجل ويرتكب المزيد من الهفوات التي ستضعه وجها لوجه مع معادلة الاستقرار في البلاد وعندها لن يجد من ينحاز اليه او يؤيده…
وحدها معارضة الرئيس بري تقلق الرئيس الحريري، وتضع مستقبل تشكيل حكومته على المحك،هو يدرك انه سيواجه الكثير من العقبات في طريقه، كان «ابو مصطفى» «كاسحة الغام» قادرة على اجتراح الحلول و«تدوير الزوايا». لم تكن معارضة بري الحادة في بال رئيس «المستقبل»، يعترف في مجالسه الخاصة انه حسبها «غلط» مع رئيس المجلس النيابي، لم يكن يتقصد اخراجه من المعادلة او تجاوزه في التفاهم مع «الجنرال»، هو يدرك المخاطر، لكنه كان يصطدم دائما بعدم رغبة بري في «تصديق» انه جديا سيقوم بخطوة تبني ترشيح عون، وكان بري يرجىء النقاشات التفصيلية في هذا الملف، وكأنه يدفع الحريري الى التفكير مليا في خطوته مراهنا على انه لن يذهب في نهاية المطاف الى هذا الخيار، في «بيت الوسط» لا يعرفون اذا كان «الزعل» نتيجة لعدم الاستماع الى نصيحة بري بعدم «الاستدارة» او لان «الدخان الابيض» لم يخرج من عين التينة، لكن في المحصلة جاء الرفض الحاسم مفاجئا، ارضاء بري بات صعباً ومكلفاً، لكن معاداته قد تكون اكثر كلفة. عجلة الاتصالات انطلقت لتبريد الاجواء للوصول الى تفاهمات، والمفارقة هنا ان «بيت الوسط» يراهن على «حارة حريك» لوصل ما انقطع مع «عين التينة»، وهو امر وجد ترجمته العملية في الحوار الثنائي قبل ايام حين انقلبت الادوار و«تقمص» الحاج حسين خليل الدور الاعتيادي الذي كان يقوم به الوزير علي حسن خليل…؟!