حسناً فعل سعد الحريري في مبادرته الهجومية مُستنداً صراحة إلى مبادرة ماكرون، مُتجاهلاً كونها صدى للبرنامج الإنقاذي الذي طرحته الثورة اللبنانية. ربّما هي المرّة الأولى التي يستند فيها إلى الآليات الدستورية، فينسّق فحسب مع رئيس الجمهورية ومع الكتل النيابية، ويتجاهل كلّ من يحمل اسم الممثّل الشخصي.
كي يكتمل المشهد الدستوري والسياسي، عليه ألّا يجتمع بممثّلي الأحزاب الميليشيوية التي شاركت في انتهاك الدستور وتعطيله، وأن يصمد على رفضه التخلّي عن حقّ الرئيس المكلّف بتسمية الوزراء، بالتنسيق مع رئيس الجمهورية، حفاظاً على الدستور وعلى هيبة الرئاسة الثالثة وعلى صلاحياتها، وأن يكرّر انحيازه الصريح للثورة وبرنامجها المُعلن لحلّ الأزمة.
أقول، منعاً للإصطياد في الماء العكر، لا هو دبشليم ولا أنا بيدبا، ولست ابن المقفّع لأعبّر عن أفكاري بألسنة الحيوانات. قدّمت النصح لسواه كلّما كان يناديني واجبي الوطني. كتبت في نقد التجربة الحريرية مقالة طويلة نشرها الصديق العزيز جهاد الزين في شباط 1994 في جريدة “النهار”. ليس استخفافاً بالجانب الإقتصادي وبالعوامل الخارجية، بل لأنّني ركّزت اهتمامي على الجانب السياسي، إذ كنت متيقّناً وما زلت من أمرين: الأوّل، إعتبار العامل الداخلي هو الحاسم والخارجية عوامل مساعدة فقط، والثاني أنّ أزمة لبنان المنفجرة وأزمات المنطقة التي انفجرت قبلها ناجمة، فضلاً عن أسباب اقتصادية وعوامل خارجية، من غياب الديموقراطية ومن استبداد مُستدام صريح أو مقنّع.
هذا اليقين المزدوج كان في التسعينات سباحة ضدّ التيّار. لم يكن الخيار بين الديموقراطية والإستبداد، بل بين التبعية لسوريا أو العمالة للعدو. عنوان النقد، أزمة الديموقراطية في مشروع الحريري وفي مشروع “الحزب الشيوعي”. أمّا لماذا “الحزب الشيوعي”، فلأنّني كنت في قيادته المركزية مُعترضاً على خطابه الذي يُصرّ على معارضة “النظام والحكم والحكومة”، وعلى التنسيق، في الوقت نفسه، مع نظام الوصاية، ولأنّه يشبه معارضات العالم العربي وأنظمته المعادية للديموقراطية.
قلت إنّ الدولة هي الحلّ، لكنّهم كانوا يعيدون بناءها بصورة مطابقة لدولة حزب “البعث” أو الدول الشيوعية التي تغلّف استبدادها بديكور من الإنتخابات الدورية وبتعليق الدستور، بحجّة المصالح القومية العليا وذريعة المعركة مع العدو.
خروج القوات السورية من لبنان عام 2005 وقبلها جيش الإحتلال الإسرائيلي عام 2000 دفع العامل الداخلي إلى الواجهة، وانعكس على الحياة السياسية بوجهين سلبي وإيجابي. من ناحية، طغى النهج الميليشيوي على إدارة شؤون البلاد، فنقلها من تعليق الدستور إلى تعطيله وانتهاك القوانين طيلة سنوات من الفراغ الرئاسي والحكومي والنيابي، ما أدّى إلى استفحال الأزمة على جميع المستويات السياسية والإقتصادية والمالية والأمنية والإجتماعية وحتّى الأخلاقية.
من ناحية أخرى، تعاظم الوعي بأهمّية الدولة والدستور والقوانين. واستناداً إلى هذا الوعي، تحوّلت أشكال التعبير عن الغضب الشعبي المتراكم، من انتفاضات متتالية إلى ثورة تحت سقف الدستور، أسقطت حكومتين فباتت القوى المنتهكة للدستور محاصرة ومعزولة، وفرضت على بعض أهل الحكم، ومن بينهم سعد الحريري، الإصغاء لصوت الثوار واحترام الآليات الدستورية.
تشجيع الآخرين من أهل السلطة، على سلوك طريق العودة إلى الدستور واحترام القوانين، ليس خياراً أمام الثورة بل هو أوّل واجباتها الوطنية للحفاظ على زخمها موحّدة تحت راية الشعار، الشعب يريد تطبيق النظام، على أن تترك للقضاء، بعد مساعدته على استعادة دوره كسلطة مستقلّة، أمر محاسبة الفاسدين.