قد يكون القرار بتصفية رفيق الحريري أكثر قرارات القتل انكشافاً وعلنيةً في تاريخ لبنان خارج حروبه الداخلية. عشيّة تنفيذه كان الجميع يتحدث عنه في الداخل كما في الخارج.
أركان السلطة في حينه ممن كانوا يحملون لقب المنظومة الأمنية اللبنانية السورية ابتدعوا الأعاجيب في حملتهم عليه، من الملفات القضائية إلى صفائح زيت الزيتون. إجتهدوا علناً في إحصاء أنفاسه وتحرّكاته وراقبوه سرّاً ليلاً ونهاراً. جمعوا الملفات في كتب أصدروها وموّلوا كتابات ومنشورات. وكان هدفهم الخلاص من الرجل.
في دمشق كان مسارٌ موازٍ يُبنى. المسار اللبناني كان مساعداً وتابعاً جعل أركانه يعتبرون الإغتيال حادثاً ليتحدث رئيسهم عن «ضرب رذالة» تعرّض له رفيق الحريري.
مرّت 17 سنة على يوم التفجير. لم تنفع كل تطمينات العالم الرئيس الضحية. العالم عكف دائماً على تطمين اللبنانيين إلى دعمه سيادتهم واستقلالهم ووحدة أراضي بلدهم، ومع ذلك لم يحصل أي شيء من ذلك. السيادة منقوصة والدولة تنخرها الدويلة وتهيمن عليها، واحتمالات النهوض الوحيدة التي كان يمثلها الرجل المقتول قتلت معه. ربما كان هذا هو الهدف من قتله أو هو كذلك فعلاً.
لم تنشأ في لبنان لا بعد اغتيال الحريري ولا قبله ما كان يُصطَلَح على تسميته بالطبقة البورجوازية المرتبطة بأرضها ووطنها. كان لدينا دائماً بورجوازيات أشبه بزعامات الأحياء، هي نفسها التي اشتغلت لدى الفلسطينيين والسوريين والإسرائيليين واليوم لدى الإيرانيين (وغيرهم)، ودائما ما كانت مصالحها الخاصة في المقدمة أما مصالح الوطن ومواطنيه، ومصلحتها كطبقة تفترض تضامناً ورؤية موحدة، فكانت تنسحب إلى المرتبة الدنيا.
لم تتمكن تلك «الطبقة» من التحرك لأجل ابتداع مخارج تمنع حرب 1975 واستفحالاتها، ولم تسعَ لمنع الغزو السوري ثم الإسرائيلي وبعدهما التسلل الإيراني، وإثر اتفاق الطائف لم تجتهد لحماية تجربة جديدة قد تفتح الباب أمام استعادة الدولة، فبقيت منقسمة تحت سقف اتفاق فُرِض عليها، وراقبت بعجز وربما بفرح اغتيال رئيسين في حقبة السلام المنتظر: رينيه معوض وبعده بـ16 سنة رفيق الحريري، قبل أن يصبح الإغتيال سياسةً مرموقة مُتبعة ولها من يشرح محاسنها.
هؤلاء الذين يسمّون بورجوازية حاكمة هضموا بلداً بآماله وطموحات شعوبه، برروا اغتيال الغير وقتله ونظروا للموت والخيانة وتحرير فلسطين ونسف العرب وللحاق بماركو بولو على طريق الحرير، وفي النهاية، وبعد أن جلسوا في مقاعدهم ليشهدوا تفجير غيرهم في السان جورج والكولا والجديدة، تسابقوا لضمان خراب بلدهم وسرقة شعبهم.
بعد 17 سنة على اغتيال الحريري هذه هي النتائج التي نحصدها اليوم.