لم يكن «حزب الله» في وضع مريح غداة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري في 14 شباط 2005. كتب الراحل جوزف سماحة بعدها بأيام قليلة افتتاحية في «السفير» بعنوان «التاريخ إذ يتسارع»، رأى فيها أن قتل الحريري كان كافياً «لإزاحة صمام الأمان من أجل أن تتدفق مشاعر مقموعة، وتتحوّل إلى قوة مادية تعدّل موازين القوى». تسريع التاريخ نتج بهذا المعنى عن عمليّة اغتيال أطلقت ديناميات مكبوتة، تفيض اعتراضاً على ممارسات الأجهزة الأمنية السورية في لبنان، وسمحت باتساع رقعتها بسرعة استثنائية. المحصّلة كانت خروجاً عسكرياً سورياً من البلاد، وانتقال قسمٍ وازنٍ من اللبنانيين إلى الضفة المقابلة لدمشق حيث كانت تتمركز معارضتها التقليدية، وتقوقعَ «حزب الله» مع قوى يتضاءل حجمها الشعبي يوماً إثر آخر، في زاوية مخصصة لمن تبقى من حلفاء السوريين.
جاءت المحكمة ذات الطابع الدولي لتقونِن المسار السياسي للأحداث وتثبّت طابع المواجهة الوجودية مع دمشق. كان نظام الأسد الإبن يومها يستبدل عدداً من رموز الحرس القديم بآخرين يوالون عهده، خصوصاً بعد إبعاد نائب الرئيس عبد الحليم خدام عن القرار ثم إعلانه «الانشقاق»، و«انتحار» وزير الداخلية السوري غازي كنعان. وكانت تطورات الإقليم تسير على إيقاعٍ فرضه الاحتلال الأميركي للعراق، وحُلم البيت الأبيض ومحافظيه الجدد بـ «شرق أوسط جديد» وهندسةٍ اجتماعية مُتقنة لمكوناته.
بدأت مرحلة قلب النظام في لبنان عبر المحكمة الدولية في ظل ذلك التجاذب الحادّ. وُجه الاتهام إلى قادة الأجهزة الأمنية الحليفة لدمشق وزُجّوا في السجن. أعلن رئيس لجنة التحقيق الدولية الأول في القضية ديتليف ميليس في نهاية العام 2005 في مقابلة مع «الشرق الأوسط» السعودية أنه مقتنع بمسؤولية النظام السوري عن اغتيال الحريري. ثم جاءت عمليات قتل رموز المعارضة اللبنانية لدمشق واحداً تلو الآخر لتضاعف من قناعة أنصار هذه المعارضة بوجهة الاتهام.
كان «حزب الله» مداناً بالمعنى السياسي من قبل هذا الفريق. بالنسبة للحزب، كانت سوريا، كما هي اليوم، حليفاً استراتيجياً لا غنى عنه. لكن بالنسبة لقوى «14 آذار»، كان نظام دمشق مجرماً بلا حدود، علماً أن طبيعته الأمنية لم تكن بحاجة إلى إثبات في لبنان.. ولا في سوريا أيضاً.
ثم جاءت حرب العام 2006 لتجعل «حزب الله» في موقع المُتهِم لخصومه باستعجال الحسم الإسرائيلي في الحرب وحماستهم لها (وبعض ذلك كشفته «وثائق ويكيليكس» لاحقاً). أخذ الصراع مداه السياسي إلى أن أصدرت الحكومة اللبنانية بقيادة السنيورة قرارها الشهير بتفكيك أجهزة اتصال الحزب في 5 أيار 2008، فردّ الحزب عليها بعملية اجتياح أمنية لمناطق خصومه بعدها بيومين. ومنذ ذلك الحين تحوّل الأخير إلى هدف خصومه الأول، وراحت المحكمة الدولية تعدّل من وجهة اتهامها نحوه بعدما أطلقت قادة الأجهزة الأمنية لعدم كفاية الأدلة. ثم أتت الحركة الاحتجاجية السورية التي ووجهت ببطش النظام السوري في العام 2011، والتي تنامت على ضفافها قوى مسلّحة سرعان ما احتلت متنها، ليدخل «حزب الله» إثرها في صراع استنزفه أكثر مما خُيّل إلى قيادته على الأرجح.
اليوم، لم يعد التاريخ يحتمل ما يضاعف من سرعته في المشرق. فقد وصلت حركته إلى ذراها القصوى. أما المحكمة الدولية التي عدّلت من وجهة اتهامها فقد أنجزت مهمّتها بنجاح. مثلما كان ضباط الأجهزة الأمنية في لبنان مسؤولين مباشرين عن اغتيال الحريري الأب بين 2005 و2009، أصبح مصطفى بدر الدين، القيادي العسكري الأبرز في «حزب الله»، متهماً أول، حتى جاءت لحظة اغتياله في دمشق. العبرة في قناعة نصف الرأي العام في لبنان، لا في الإثبات ولا في الأحكام، سواء كانت مسيّسة أم لا.