البدء بتنفيذ قرارات «سيدر» كان يتطلب اختصار زمن تشكيل الحكومة وعدد جلسات مناقشة الموازنة والأمران لم يتحققا؟!
لم تنفصل مسألة مناقشة وإقرار مشروع موازنة العام الجاري في مجلس الوزراء عن سائر المسائل والقضايا السياسية الأخرى التي تطرح أو تستجد ويستغرق البحث فيها أسابيع وشهوراً طويلة في بعض الأحيان، بينما يُمكن اختصار الوقت أكثر بكثير والبت فيها وتقليل الخسائر الناجمة عن إطالة البحث فيها وتأجيج الخلافات من حولها.
ولكن يبدو ان ما حصل في جلسات مناقشة الموازنة والتي بلغت رقماً قياسياً هذه المرة واستغرقت وقتاً أكثر مما كان متوقعاً، قد أصبح نهجاً سياسياً وإسلوباً يمارس عن قصد وسابق تعمد وإصرار، من أكثر من طرف سياسي، لابتزاز الخصوم وتحقيق أكثر من هدف سياسي، حتى لو كان على حساب ومصلحة الشعب اللبناني كما حصل أكثر من مرّة في الأمس القريب.
فمن التعطيل المتعمد لانتخابات رئاسة الجمهورية والذي تجاوز السنتين، إلى التأخير في تشكيل الحكومة الحالية والذي استغرق ما يقارب التسعة أشهر، ها هو الاسلوب نفسه ينسحب على مناقشة وإقرار الموازنة، في جلسات تخللها مناقشات مغلفة في كثير من الأحيان بمماحكات مكشوفة وشد حبال وتجاذبات سياسية حادّة، كادت في بعض الأحيان تتخطى المعقول وتتحول إلى تصفية حسابات وشدشدة بين أكثر من طرف سياسي تحت عناوين المشاريع الإصلاحية وتخفيض العجز وطرح سيناريوهات خطط وتطلعات سميت حيناً ببرامج وأحياناً أخرى تلبّست ثوب مكافحة الفساد وما شابه، حتى خُيِّل للبعض في وقت من الأوقات ان جلسات النقاش، لن تلبث ان تتحوّل إلى اشتباكات حادّة بين مختلف الأطراف لاختلاف الرؤى وتضارب الأفكار والتوجهات بعدما لوحظ بوضوح ان هناك من يتعمد إطالة النقاش تحت عناوين وطروحات فضفاضة سبق وأن نوقشت وهي لا تقدّم ولا تؤخّر في تغيير مرتكزات وأسس الموازنة بالرغم من كل ما احيطت به من حملات ودعايات إعلامية وسياسية لتصويرها على غير حقيقتها. فهناك من يتبع أسلوب الاثارة والترويج لأفكار من هنا وخطط من هناك، لإظهار نفسه وكأنه المحرك الاساسي والمرجعية الوحيدة التي تقرر وتنفذ بمعزل عن الآخرين.
فإذا لم يُستجب لطروحاته وافكاره التي لا تتلاءم في كثير من الأحيان بفحوى الموازنة أو لا تتلاقي مع طروحات الآخرين ولا سيما الخصوم منهم، فالتعطيل المتعمد والجرجرة السياسية المقصودة ستغلف التعاطي مع هذه المسائل الخلافية، كما حصل في بعض الاحيان لدى مناقشة مشروع الموازنة في مجلس الوزراء.
ولا شك ان حب الظهور على المسرح السياسي بشكل دائم والايحاء دوماً القيام بالدور المؤثر والفاعل ولا سيما على الساحة المسيحية دون الآخرين، كان أحد الدوافع الأساسية لانتهاج مثل هذا الاسلوب، بينما يبقى الاستحقاق الرئاسي الهدف الأسمى من وراء كل ما يتبع حالياً ولذلك بات اللبنانيون على اختلافهم يدفعون ثمن كلفة التأخير الحاصل والجرجرة المقصودة بتأخير إقرار الموازنة بعدما طرحت شكوك وتساؤلات عديدة عن أهداف مثل هذا التأخير المبرمج الذي بات يكلف الدولة أعباء إضافية لاسيما على صعيد التزاماتها مع الخارج ومدى إمكانية الايفاء بهذه الالتزامات في المرحلة المقبلة، خصوصا بالنسبة للبدء بتنفذ قرارات مؤتمر «سيدر» بعدما كان متوقعاً ان تقصّر الحكومة الوقت الطويل الذي استغرقته مسألة تشكيلها بداية ومن ثم اختصار جلسات مناقشة مشروع الموازنة بالمجلس النيابي إلى الحد المقبول ولكن كلا الأمرين لم يتحققا واستغرق البت فيهما أطول مما كان مرتقباً.
اللافت في كل ما حدث من تجاذب وضجيج سياسي أثناء مناقشة مشروع الموازنة داخل مجلس الوزراء وخارجه، ان البعض خشي ان تتحوّل المناكفات الحادّة، إلى اشتباكات سياسية بين أكثر من طرف وتؤدي بما تؤدي إليه إلى الاطاحة بالتسوية الرئاسية التي انبثق عنها تشكيل حكومة وفاق وطني برئاسة الرئيس سعد الحريري في المرحلة الأولى، والحكومة الحالية الشبيهة بالاولى، ومن ثم إعادة الشرخ الذي كان قائماً بين اللبنانيين قبل التسوية المذكورة.
إلا ان كل هذه الموجات من السجالات السياسية على أنواعها كانت تصطدم بصبر وإرادة الرئيس الحريري لاستيعاب كل ما يحصل مع الإصرار على الاستمرار بمناقشة وإنجاز الموازنة بالرغم من كل الخلافات الجانبية من هنا وهناك حتى تمّ بالنهاية إقرار المشروع بالصيغة التي اكتملت في جلسة مجلس الوزراء ما قبل الأخيرة بالسراي الكبير.
صحيح ان التجاذبات السياسية التي يذكّيها أكثر من طرف سياسي مشارك بالحكومة لتحقيق هدف من هنا أو من هناك في مرمى الخصوم، كانت تؤثر سلباً على سير النقاش وتطيله بلا مبرر وتغضب في احيان كثيرة رئيس الحكومة الذي تعرض لانتقادات البعض لامتناعه عن الخوض بالسجالات وحملات تأجيج الخلافات والتحدي من هنا وهناك والتزام الصمت في احيان أخرى، لأن الهدف الأساس لرئيس الحكومة ليس الانزلاق إلى متاهات الخلافات الصغيرة والتجاذبات وإنما هو إقرار الموازنة التي تشكّل الرافعة لإنقاذ الوضع الاقتصادي والنهوض بلبنان في المرحلة المقبلة.